أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 3rd August,2001 العدد:10536الطبعةالاولـي الجمعة 13 ,جمادى الاولى 1422

أفاق اسلامية

التجوز في الدعاء
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الله سبحانه وتعالى:« ادعوا ربكم تضرعاً وخفيه إنه لا يحب المعتدين» «سورة الأعراف/55» .. وما لا يحبه الله فهو منهي عنه، والجملة في الاعتداء: أنه مخالفة هدي الشرع في آداب الدعاء وأحكامه، وتفصيله وأكثر التجاوز في المعاني : بأن يسأل ربه غير مشروع من محرم ومكروه وغير ممكن.. كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم، أو يقول: اللهم إن شئت فأعطني.. فهذا منهي عنه كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه المتفق عليه.. وهذا الدعاء دعاء مستكبر ممتنٍّ مستغنٍ، وبما أن الدعاء عبادة، فلا يكون إلا عن تجرد من الحول والقوة، واعتراف بالفقر والحاجة إلى الغني الواحد القادر سبحانه.. ومثل هذا التجوز ما ورثته الإذاعة والتلفاز من الأدعية البدعية الصوفية كقولهم: اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، وإنما نسألك اللطف فيه!!.. بل يكون الدعاء عازماً عن كل بلاء، والله يدفع أقداره بأقداره، والدعاء وإجابته من أقداره سبحانه، وتدافع الأقدار مرتب في سابق علمه سبحانه، والدعاء والقدر يختلجان في السماء.. ومن الاعتداء أن يضيَّق ما جعل الله له فيه سعة كالذي دعا بتعجيل عقوبة الله له في الدنيا كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند مسلم والترمذي والنَّسائي، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.. فهذا له سعة بأن يطلب من ربه العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.. ولكن إذا وقع عليه مصيبة دنيوية فيصبر، ويحتسب، ويسأل الله أن تكون له تكفيراً وتطهيراً، ويعلم أن ما أصابه من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه.وأما التجوز بالدعاء في اللفظ، فالنهي عنه له أصل من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه لما ردّد ما علّمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعاء، فقال: ورسولك الذي أرسلت.. فقال له صلى الله عليه وسلم: لا : ونبيِّك الذي أرسلت.. والحديث متفق عليه.قال أبو عبدالرحمن: الناس ما بين جاهل بصيغ بعض الأدعية، وحافظ لها اعتوره النسيان، فيضطر إلى أن يدعو بألفاظ من عنده دعاءً صحيح المعنى، وقد روي عن الصحابة رضي الله عنهم أدعية موقوفة، بل في المناسك أدعية صحيحة الثبوت عن أئمة الفقه غير مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموقوف عليه في القنوت: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد: نرجو رحمتك، ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق.. اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخضع لك، ونخلع من يكفرك.. فقد صححه موقوفاً على عمر رضي الله عنه كلٌّ من البيهقي في السنن الكبرى، والألباني في إرواء الغليل.. وليس من الشرط أن يكون في حكم المرفوع لفظاً إلا بمفهوم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين.. ولكن معانيه كلها صحيحة شرعاً، وبعض جمله وارد مفرقاً في نصوص شرعية صحيحة.
وفي أدعية الطواف توظيفاً بيَّن شيخنا العلاَّمة الدكتور بكر أبو زيد ما صحَّ منه وما لم يصح(1) .. وليس فيما صححه ما ورد من دعاء استحبه الإمام الشافعي رحمه الله بعد طواف الوداع.. قال القاضي عز الدين ابن جماعة« 694 767ه»: «فإذا فرغ من الركعتين فاستحب الشافعي رضي الله عنه أن يأتي الملتزم بين الركن والباب، فيلصق بطنه وصدره بحائط البيت، ويبسط يديه على الجدار، فيجعل اليمنى مما يلي الباب، واليسرى مما يلي الحجر الأسود، ويدعو بما أحب من أمور الدنيا والآخرة.. واستحب الشافعي أن يقول: اللهم البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك.. حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى أعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضىً وإلا فمن الآن قبل أن تُنائي عن بيتك داري.. هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا براغبٍ عنك ولا عن بيتك.. اللهم فاصحبني العافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي خيري الدنيا والآخرة.. قال الشافعي: وما زاد فحسن»(2).
قال أبو عبدالرحمن: بعض هذا الدعاء صحيح المعنى وإن لم يصح مرفوعاً لفظاً، ولابأس بالدعاء به على الشرط الذي سأذكره إن شاء الله إطلاقاً لا تقييداً وتوظيفاً.. وبعضه لا يصح معناه إلا بتوقيف.قال أبو عبدالرحمن: وإذ صح كل هذا فإن المقرر في الدعاء لفظاً حتى لا يكون تجوزاً، التالي:
1 أن يحرص المسلم على حفظ الأدعية الشرعية الصحيحة إطلاقاً وتقييداً.
2 أن يتعهد حفظه، فيأتي بنص الحديث كما هو حتى لا يقع فيما استدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء رضي الله عنه.
3 إذا تعهد حفظه ثم اعتوره نسيان وقت الحاجة إلى الدعاء: فعليه أن يجتهد في إثبات اللفظ الذي يترجح له من حفظه، أو يعبر بمعناه، وقد استجاب الله لعباده أن لا يؤاخذهم بالنسيان، والخطأ.. ولكن عليه بعد ذلك أن يعيد المراجعة حتى يرسخ النص في ذاكرته.
4 العامي الذي لا يحفظ الدعاء يدعو بما يحفظه، ويعبِّر من عند نفسه وإن كان عاميَّاً.. على أن يكون المعنى مما علم من أهل العلم صحته.. وهذا داخل في باب إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما تستطيعون..
بل قد يكل العامي الطلب إلى ما في قلبه من حوائج وإن لم يحسن التعبير كالجارية السوداء التي قالت: اللهم إني لقَّيتك سوادي وأنت أعلم بما في فؤادي.
5 يدرك المسلم في خلوة أو سعي أو طواف خشيةٌ وخشوع وقشعريرة، وقد دعا بما يحضره من دعاء مرفوع، ويطلب المزيد.. ثم يظهر له واقع حال ، فيُفتح عليه في الدعاء بألفاظ غير مرفوعة وهي في غاية الصحة معنى، فهذا مدد من ربه يستغله ساعته، ولا يسجله ليدعو به في المستقبل ويجعله بديل المرفوع أو يزاحمه به.
6 الحمد ذكر لله وليس دعاءً إلا إذا تأول الخبر في شأن من شغله ذكره الله عن مسألته، فذكر الله حينئذٍ يتضمن الدعاء بدليل من خارج.. ولا حرج في حمد الله ابتداءً بألفاظ من عند المكلَّف في شكره لربه من جهة تعداد نعم معينة، لا من جهة صيغ الحمد؛ لأنه مطلوب منه الحمد بإطلاق بالصيغ المشروعة، والحمد على نعم معينة ليس من الشرط أن تكون مسماةً شرعاً.قال أبو عبدالرحمن: بعد الكهولة تغيَّرت أحوالي بألطاف من ربي سبحانه، فكان لساني ينطلق تلقائياً بمثل: الحمد لله الذي أغناني بعد عيلة، وأعزَّني بعد ذلة، وكثّرني بعد قلة.. أريد المال والولد وكثرة الداخلة من قريب وصديق بعد أن جمعتنا المدينة من القرى المتنائية، وكانت نفسي تنبسط وترتاح لهذا الحمد، وما من تجاوز، لأن الحمد كان باللفظ المأثور، وأما تعداد بعض النعم التي حمدت ربي عليها فلستُ مقيداً بلفظ معيَّن، بل أعدد من النعم كما وقع ولله الحمد والفضل والمنَّة .
7 من التجوز البحت في الدعاء أن يستعمل دعاء شرعياً لاينطبق على حالته كأن تقول أنثى حامل: ربِّ إني نذرت لك ما في بطني محرراً.. أو يقول رجل: ربِّ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي.. فهذا دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام الذي علم من ربه وهو أب أكثر البشر بعد نوح عليه السلام أن ذريته ليست كلها كذلك.. أما سائر المسلمين فيعزم المسألة لجميع ذريته.
8 ليس من التجوز في الدعاء ما يتدفق به المنشئون في خطب الجمع والأعياد والمناسبات، وخطب المؤلفات إذا كانت المعاني صحيحة، لأن السيرة العملية جرت بذلك من عهد السلف؛ ولا يُبَدَّعُ ما جرت به السيرة العملية.. ولأنه لم ترد نصوص أدعية موظفة لهذه المناسبات، فيكونون راغبين عن النص، ولأن أي دعاء مطلق لا يفي كله بمناسبات الخطب التي يُراعى فيها براعة الاستهلال، وتعدد الأغراض، فالله جعل لعباده سعة في استفتاح خطبهم، ومزجها بالدعاء المأثور نصاً، وإنما المهم صحة المعنى فيما يضيفونه من أدعية.. وأما العبادات ذات الأدعية الموظفة فلا يصح فيها غير المأثور إلا من كان معذوراً بالشرط الذي أسلفته.
9 ومن التجوز أن يكتب أدعية مطلقة أو موظفة؛ ليحفظها ويدعو بها.. سواء أكانت من السجع المذموم، أم بأسلوب : عبد الحميد، أو الجاحظ، أو ابن العميد، أو طه حسين، أو سيد قطب؛ لأن هذا رغبة عن ألفاظ الشرع وبلاغتها.. وإنما المغتفر ما أسلفته حينما يُفتح عليه بدعاء يكون وقتياً، أو يغيب عنه النص فيعبِّر حسب قدرته الإنشائية بكلام مفهوم عن معانٍ شرعية صحيحة.. ومن أدلة النهي عن التجوز في الدعاء ما رواه أبو داود في سننه بإسناده إلى أبي نعامة:أن عبدالله بن مغفل رضي الله عنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها.. فقال: يا بني: سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء، والله المستعان.
الحواشي
«1» انظر: تصحيح الدعاء، ص 511 524 ط دار العاصمة بالرياض/ الطبعة الأولى عام 1419ه.
«2» مناسك ابن جماعة على المذاهب الأربعة تحقيق الدكتور حسين بن سالم الدهماني. ط1 تونس: ط م الكواكب، عام 1407ه.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved