أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 16th August,2001 العدد:10549الطبعةالاولـي الخميس 26 ,جمادى الاولى 1422

الثقافية

قصة : للحياة لون آخر
عبدالكريم النملة
الآن تحول نظراتك المضطربة دون دخولي الكلي النهائي واستلاب ما بقي في جوفك إن كان هناك ثمة شيء أهملته خلال رحلتي معك، أعترف أني كنت أقسو أحياناً ولكن لا تستطيع أن تدعي لحظة واحدة أني كنت ألفق التهم أو أني آتٍ بقول زور أو كذب.
قبل أن تصرف وجهك عني ربما للمرة الأخيرة، قف قليلاً أو كثيراً لا أعلم قف كي أحدثك حديثاً لا تحتاج سماعه ولا تبهج كثيراً بتفاصيله، قف كي تسمع كلمتي التي كنت تكتمها بحواسك وايحاءاتك، قف لأقول لك إن كل شيء قد تم حسابه بدقة وذكاء وصبر وطول نفس.
ü ü ü
خلال وجودنا القدري، كنت أراك دون تبصر، ألمحك كباقي الأشياء حولي، كالسماء كالتراب كالمطر، لم تكن تستلب دهشتي ولم تتمحور في ذهني يوماً، كنت كأشيائي الصغيرة التي أطيل العبث بها حيناً وأتجاهلها أحياناً، بل لا أبالغ إذا قلت إنني كنت أوثر مرور لعبتي التافهة في ذهني على مرورك ولو للحظة مارقة، لم أخمن يوماً أنك ستكون وأني سأكون، كنت أجهل كل شيء، لأن اللحظات التي تمر بين جنبي لا تقول إلا ذلك.
بعد وقت تشكل شيء في صدري وكأنه خلاصة كل الوقت الذي تركته خلفي، تنامى كل شيء حولي يمكن أن يتحول إلى خوف، كل صوت أصدره أرى أنه يرتد خوفاً ويستقر في أعماق قلبي الصغير، عندما أبصرك أهرب منك مبتعداً بجسمي وصوتي لالشيء محدد أو ظاهر، فقط لأنهم علموني أنه يجب عليَّ أن أخاف وأهرب.
هل كنت تمنحني احساساً، أي إحساس، بل هل كنت تعلم بوجودي، كنت أشك أنك تعرفني، كل نظراتك لا أراها تستقر أو تسأل، لم أنل منك ابتسامة تخصني بها، وإن كنت أحوم حولك عندما نجتمع، لم أكن أشعر بدفء المكان معك إلا عندما أرى أبي يجلس بجانبك، عندها أغرق في الاطمئنان وتزيد شقاوتي الطفولية وينضب ذلك الخوف المزروع في قلبي.
أتذكر عندما خرجنا يوماً إلى خارج المدينة، نشتم رائحة المطر الذي توالى سقوطه في الأيام الماضية، كنا نقترش الرمل الناعم ونقلب أجسادنا فوقه وندع الشمس الخجولة تمارس لعبتها اللذيذة فتصبغ أجسادناً بلون الرمل الناعم نتمرغ وكأن شوقاً ما يشدنا إلى التراب، كنت أنزوي وأتوارى عن الأعين لأغرق في صمت الصحراء، كم تعلمنا الصحراء ونجهل، نتسلى، نلهو، وأحياناً قليلة نتعلم، وأكثر مانفعله هو أن ننسى كل ما علمته لنا الصحراء، فنعود كسالى مرهقين إلى بيوتنا وأول شيء نفعله أن نقبع تحت الماء ليزيل كل ما ألهمته لنا الصحراء.
هناك كنت تبدو غيرك، تلهو في الصحراء كطفل يلهو بلعبة جديدة، عندما تتخفف من بعض ملابسك يغيب شيء من وقارك الذي تتصنع معظمه، كنت أتمنى أن أحضنك وألهو معك لأرى نفسي كم أنت انسان بسيط مثلي، أقترب منك أعبث بأشياء حولي، استرق نظرك للحظات أعود بعدها إلي نفسي وأمعن في التفكير.
لم يحدثني أبي كثيراً عنك، كنت رجلاً بالغ الصعوبة، كنت أرى الإرهاق الذي يكتسي به وجه أبي عندما ينتهي من حديث معك، عندما يلوذ أبي بالصمت حين أسأله عنك، كنت أرى أنه يبالغ كثيراً في وصفك عندما يصمت ويرفض الحديث.
ملامح أبي بعد أي لقاء معك التصقت في ذهني ونفت أي ملامح أخرى أتذكره بها عندما تستدعيه ذاكرتي. آراه يصم أذنيه مقاوماً صخبك، أراه لائذاً متنهداً، أراه متكوماً وكأنه يرقبك، لكن صمته الكبير يفضحه من حيث لا يريد ولا يقدر، صمته الكبير الذي جعله سداً بينكما وبين كل من حولكم ولم يستطع أحد اختراقه، ولكن مشاعري اقوى وحواسي أشد، فقد رأيته في صمته متحدثاً مفوهاً وقد قال لي صمته مالم تقله كلمات الدنيا كلها.
ذاكرتي لا تخيب ظني، أناشدها فتبدع ذكريات كنت أحسب أنها لم تكن يوماً، تتدفق الذكريات من فم الماضي بدفعات ذكية موائمة فلا تنهال أحداث إلا عندما أجد لها حاجة، إلا عندما أريد دليلاً قوياً، أتذكر مرة عندما كنت فتى يافعاً، أني كنت أتلصص على بيتك دون علمك، كنت أرى سيارة نقل صغيرة تدخل بيتك ويبدأ رجال في إنزال صناديق مكعبة، تعجبت! لماذا لا تضيئون باحة البيت لينشق ذلك الظلام الدامس، نقلت لأبي مارأيت، صدمني بنظرة طويلة لم تنقطع إلا بعد ان انقطع قلبي فرقاً، لم أكن أراه بهذه الشراسة إلا عندما يتعلق الأمر بك، جعلني إحساسه هذا، أتوق لمعرفة كل شيء عنك، أعاند نفسي عندما تتسامح، أرهقها بكل سؤال جامح لا أجد له جواباً.
ü ü ü
اليوم فقط فكرت في رسم صورة وجهك، بدأت يدي تخط ملامحك الأولى، وبعد وقت طويل نظرت إلى رسمي في بداياته، لم تكن تشبه ملامحك الأولى ولم تكن تشبه وجه أبي رغم أنك شقيقه الأصغر، مزقت اللوحة، وبدأت ثانية بعد أن حشدت تصميماً أقوى، رسمت ملامحك البعيدة مبتدئاً بها، وبعد أن غرقت في وجهك لوقت ظننته طويلاً، اكتشفت أني أرسم شيئاً آخر لايشبهك عنت لي فكرة أخرى، لماذا لا ابتدئ برسم ملامح أبي، إني اتقنها، وقد جربت ذلك، بدأت أرسم، كانت ملامحه بسيطة قريبة، كأنه يكلمني من عمق اللوحة، كانت كلماته موجعة مؤثرة، أخفقت بعدها ولم أستطع حمل الريشة، كنت كمن يرجو بكاء فبكيت وبكيت وابتعدت عن مرسمي ارتميت على فراشي، وقلبي يكاد ينفطر.
ü ü ü
قيل انه يوم عيد الأضحى المبارك، وقيل إن شمساً في كبد السماء ليست ككل الشموس الماضية.
هوت الشمس واندثر حلمها، سقط الحلم الذي طالما عانق الخيال وزها وسط عالم الغيب متحفزاً للتشكل على أرض الواقع، سقط الحلم الذي بنته يداه المتشققتان بتؤدة وصبر نادرين، سقط بعد ان اكتمل بدره ولمع في ذهنه متوثباً لأرض الواقع، سقط بعد أن كان لا ينقصه سوى الهبوط وقطف ثمار بنائه كل تلك السنين الماضية، سقط وتهشم واستدعاني بقوتي الضعيفة وبنيتي الهزيلة، استدر عطفي له دغدغني بكلمات ملأ بها نفسي.
هل كان ذلك اليوم عيداً حقاً؟ هل اشتمت الشمس رائحة الفجيعة المطبقة، هل شممت في ذلك اليوم رائحة الخراف، رائحة الدم المسفوح، رائحة شواء؟ هل اجتمعت الأيام كلها في صبيحة ذلك اليوم الذي لا يغادر؟
هل يمكن أن تشبه الأيام كلها قبل ذلك اليوم كل الأيام التي تأتي بعده؟
في ذلك اليوم فقط شعرت أني أعيش يومين متداخلين، يوم قبل العيد ويوم بعد العيد، تشتت بينهما مع أيهما يمكن أن أتواطأ، مع أيهما يمكن أن أسير بأمان، وكلما ازدادا تجافياً، ازدادت معاناتي وانكساري وحيرتي، أعلم أن لا إرادة محضة لي في الانتساب لأحدهما، كنت فقط ارقب من منهما سيطوي لحظاتي معه، وكيف، كيف يمكن أن يؤثر أحدهما على الآخر، أيهما القوي الذي يحميني بعد أن سقط جداري القاسي. سقط يوم العيد فأي منهما سيتلقفني ويكون أولى بي، كيف يمكن أن أحب أحدهما وأكره الآخر وكلاهما أعيشه في وقت واحد، مددت ظهري، رجعت للخلف وكأني أريد ذلك الجدار القاسي أن ينبت وينتصب كما عودني، كأني لا أعلم أن الذي يموت لا يعود، آلمني ظهري وتعبت من طول انتصابه دون أن يجد مستنداً يأوي إليه، وذرفت نفسي شيئاً من ألمها.
في المساء كانت السماء مبذورة بنجوم كثيرة كالثقوب الصغيرة ولا قمر.. كانت السماء تبعد عن عيني وتغوص بعيداً كأنها خجلة، وهذا كل ما يمكن أن تقدمه لي من عزاء.
ü ü ü
كنت أراك في مجلس العزاء، لم تكن عينك تدمع، قوي أنت صلب، كنت أنا مثلك لا أدمع، لم تقطر عيني دمعة واحدة، مثلك تماماً، أبكي بكاء غير معتاد، بكاء لا يظهر منه شيء وكأنه كل البكاء، بكاء لاتدره الفجيعة وحدها، بكاء لا أحسب أني سمعت به أو رأيته قبل ذلك اليوم.
أنت أخوه وأنا ابنه فأينا يعزي الآخر؟ لن تجد إجابة هذا السؤال إلا في نهاية حكايتي هذه التي ربما تحمل أكثر من إجابة على سؤال واحد حسبته أنت في فمي ومددته أنا في كل أيامك وأعدته ثانية على مسامعك ليزداد ألمك وغضبك ولا أقول ندمك.
نحن حصاد ثورة لحظاتنا، إن واقعنا لن يصمت طويلاً أمام نزقنا، أمام ترهاتنا، سينقلب علينا ذات يوم سيجلعنا نبكي لحظات كنا نعدها لحظات نحس كريهة، سيجعلها بقوة بأسه لحظات تمر كطيف خيال بريء، كسحاب ناعم شديد البياض على صفحة السماء الزرقاء.
عندما تمر أمواج الرجال المعزين على شاطئ حزنك، اراهم يرتدون عنك، يجفلون، هل تفضح عيناك داخلك، هل استبد بك حزن وأنا أجني عليك بظنوني، ربما لأني أراهم من حيث أريد أن اراهم، وربما أيضاً تراهم أنت يرتدون عني ويجفلون ولكنك لن تستطيع أن تحدس بشيء مما كان يوحي به حدسي، هاهم ينسكبون خارجين ونبقى وحيدين متقابلين كيوميّ اللذين لم يحددا بعد من هو المنتصر ومن بقي مهزوماً منكسراً، وأظن أنهما ينتظران معركتنا المحتملة.
اقتربت منك، فلابد أن نضع نهاية لتقابلنا، هكذا كنت أفكر، كما أنا طيب قنوع متفائل، أضع نهاية تقابلنا في أوج بدايتها.. سأئد الأسطورة في مهدها، سأضع نهاية حكايتي بعد سطر واحد من بداية كتابتها، وعليَّ أن أقنع الكل بأني أسير سيراً صحيحاً مقنعاً، وعليهم أن يقتنعوا بكل ما أود قوله أو فعله.
دوى الصمت بيناً، فظننت أنك قلت شيئاً وحددت أنا هذا الشيء بدقة، وهممت بالإجابة عنه، وقبل أن تنطلق كلماتي، رأيت في عينيك صمتاً بعيداً، أيقنت أنه دوي الصمت الذي حال بيننا، وأيقنت أيضاً أنك قريب جداً من نفسي، حاولت إلصاقك بعقلي لتكتمل ذاتي معك، لكن عقلي كعادته دوماً يتمرد عليَّ حين أتودد إليه، وأحنو عليه، يتشكك ويلصق بي الغواية واتباعها.
هل ستبقون في هذا البيت؟
أجبتك بسرعة وتلهف:
نعم، لن نبرحه ما بقينا..
لماذا أخافتني كلماتك العادية؟
لماذا أحملها تفكيراً مضاعفاً وهماً متراكماً؟ ألا يمكن لكلماتك أن تمر على مسمعي كباقي الكلمات؟ لماذا أستوقفها وأناقشها وأبعثر التراب تحتها، ألا يمكن أن يمتد صبري إلى أن تبعثر كلماتك أيامي، عندها سأجد الحافز مشروعاً لقراءة كلماتك من جديد وربما حركاتك أيضاً، وأهم من كل ذلك قراءة نظراتك التي تمثل الجانب العاري من كل منظومة حياتك، والتي لم تبتسل في محاولة إطفاء بريقها الفاضح، ولم تفلح في ابعادها عن مرمى نظراتي.
هممت بكلمات ضاع صداها، وضاعت نفسي إثرها دون جدوى، وعندما قمت مغادراً كرهت ذلك، كنت أريدك أن تستمر في بعث حطامي في ترتيب ذاتي، كنت قد ازددت إرهاقاً فمنذ بداية ذلك اليوم العيدي، لم أسند ظهري ولو لحظة واحدة، وبعد أن فرغ مجلسنا من المعزين، اردت أن أسند ظهري المتعب بعد ان انتهى نهار العيد وحل المساء، هل أسنده على مساء يوم سقط نهاره؟
كنت أريدك حولي، تسند معي ظهري المتعب، لكنك تريد أن تغادر، حسناً، غادر، لكن لا تغادر بكل شيء معك.
ü ü ü
كتبت لصديقي: عندما يغادر النهار، لانملك إلا أن نعيش المساء، وفي المساء أحتاجك، في المساء تتفاقم ذاتي، يقتحمني هواء جاف حارق، أتلظى بذكرياتي وهواجسي، اريد بثك وجدي، وأن تبحث معي عن مكمن حزني، لا أدري أين يقبع في شريط مسائي، مسائي طويل متسع لا يمكن معه أن أجد ما أريد بسهولة ويسر، وأشد من حزني الضائع: خوفي، فللخوف معي قصة وأية قصة، قصة خوفي قريبة جداً، فقد حل بي يوم عيد، ولم يبرح قلبي، بل على العكس، كلما هممت بطرد شبحه ازداد تمدداً وانبساطاً في أنحاء ذاتي، كففت يدي المسكينة، عن طرده، لئلا يغتالني على حين غفلة، أكتب لك هذه الكلمات، وأطمع بكلماتك المتوثبة مثلك، كلما كتبت لك حرفاً، أحسست بك اقرب خطوة.
ü ü ü
كأن سقف البيت هوى على صدري، احس بثقله يطأ صدري، عبر صوتها في هذه اللحظة أذني، تهتك إحساسي، هل تناديني حقاً أم أني أتوهم صوتها؟ هبطت السلالم بسرعة أمامها قبعت بحواسي، عيناي هما اللتان افترشتا المسافة بيننا، عيناها حمراوان كحبتي كرز، وجهها تهدل وهي لاتزال شابة يانعة، هل هو الحزن؟ هل يصمد حزن النساء طويلاً؟ متى يسكت حزنها؟
هدر غضبي فجأة، اندفع أمامي كثعبان يقتنص فريسته، قبضت على كتفيها بوحشية، قلت لها بصوت أخافني قبل ان يخيفها:
«لا تتزوجي بعده.. لا تفعلي» انخرطت في موجة بكاء حادة، أرخيت قبضتيَّ ونزعتهما من على كتفيها، انتظرت رفضها، تمردها، عنادها.
ازداد صراخها وهياجها، فجأة رأيتني أخوض في ماء آسن، وأن لا أحد يفكر بشيء سواي.
تمالكت نفسي، هيأت كلماتي لأعيد نظراتها لكنني لم أفلح، صعدت إلى غرفتي، أغلقت نوافذي انكفأت على نفسي، أهجس به وبها.
مددت عنقي عبر النافذة في صباح باكر، أبصرت نخلات أبي الثلاث، لقد عبر بهن الحزن، ذهبت إلى عالم آخر، امتد نظري إلى ذلك الوهج الأصفر الذي اكتسين به، تطامنت نظراتي، أغلقت النافذة بعنف، وظللت قابعاً أهجس بكل شيء حولي، وذكراه تنخر قلبي، تدميه، زرع حزن فقده شجرة في صدري، امتصت جذروها كل اللحظات الوادعة التي تمر في غفلة بين ساعات ملتصقة بجدار نهاري، وكلما لمحت عينيَّ شيئاً من ذكراه، أجد نفسي تتضعضع، تتهاوى أفقد حينها إحساسي بكل شيء حولي، أغرق في ذاتي وابتعد عن تلك الأشياء أردد:
وددت من شجوي عليك وحسرتي لو أن لحدك في فؤادي يحفر
لم تختلف ملامحك كثيراً عن يوم العزاء، بل ربما أزعم أنها ازدادت صرامة وحدة، وكأنك تهيئ نفسك لأمر لا يليق بك، صببت لك فنجان قهوة، مددته إليك، تناولته، كرعته دفعة واحدة، هززت الفنجان، سقط من يدي، أحدث صوتاً مزعجاً، تابعت عيناك موجات الصوت، تناولك القهوة بهذه الطريقة أجد له في نفسي تفاسير عديدة، أهونها يبعدك عني، دون أن أرغب في ذلك، صممت أن أقترب منك رغم كل شكوكي، رغم كل نظراتك، رغم خوفي ورغم تحديك، ليس أمامي إلا أن اقترب منك، لا ملاذ من التصميم على ذلك، ستكتشف يوماً زيف قربي لك وقبولي بك، لن تملك المساءلة، ستقبل يوماً بشكل ظاهري لهذا التقارب ستحتم عليك الأيام ذلك كما فعلت بي، ألم أقل لك يوماً أن قدرنا هكذا.
صوت حبات مسبحتك يطرق أذني، يرتب لحظاتي، يجعل تفكيري أقل ارتباكاً، أبطات كلماتك، ازداد اضطراب أعصابي، مؤشرات زيارتك لا تطمئن، وصباح أمي الباكر لا يطمئن أيضاً، أرفع نظري صوبك، أتأملك وكأني أراك للوهلة الأولى في حياتي، لماذا تتجدد في ذهني كل لحظة، المزيد من العذاب أتوق؟
هدر لسانك بكلمات مدوية كدوي الرصاص، استمعت إليك جيداً، تنامى في داخلي بعث جديد لحياتي، كنت كمن يهبط عالماً جديداً وغريباً، وكأن صلة انقطعت بيني وبين كل من حولي، بعدت عني، وبعد عني سؤالي، غابت إجابتي، كنت تقتلني وتمثل بي، تعاركت أمعائي، ثقل رأسي، دوار كدوار البحر يلهج بي، وأنا صامت أمامك لا أحول كتمثال أغريقي قديم، كان لسانك يهذي، وأنا لا أسمعك، كنت أذوب صمتاً، لم أكن حاضراً معك، كنت أموج في عالمي البعيد، أجول بنظراتي، أحاول المثول بين يديك وسماعك، لم أستطع أن أفعل شيئاً، اختفى صوتك نهائياً، كنا سوياً نعبر عالماً آخر جديداً علينا، أنظر حولي، أمد نظري بعيداً، أتعجب كيف لا يتعب هذا الثعبان الذي يلوب في فمك!.
لا أستطيع أن أسمع صوت كلامك، لكني أشعر به منسلاً من عينيك. تجمدت كل ذرات جسدي لا أعرف كيف نمت تلك الليلة، لم أعد أذكر من زيارتك سوى منظرك وأنت تهذي بلسانك ويديك، كنت غارقاً وبعيداً.
عندما أوارى الثرى بجانب أبي سأحكي له قصة مثيرة، استللتها من ذاكرتي بحرص وعناية، لن أنمقها أو ألحنها، سأكتفي بسردها لكن بحروف كبيرة مضيئة ولن أترك حرفاً واحداً يصمت أمامه في المساء، رحلت إليه، ألححت عليه بأسئلة موجعة، أناشده، احترق وأحرقه، أتشمم رائحته العذبة وابتسامته النقية، وصوته الذي يخدرني، أشعر بتقاسيم وجهه تلتصق بي، أناشده وأزيد في ألمه وعذابه، أذكره بكلمات الحب والتقدير التي كان يسكبها على مسامع أمي، أذكره بنقاء كلماته التي صقلت وجه أمي، وجعلت صفحته لامعة طرية، أذكره بعرقه بسهده وخوفه، أذكره بأيام أجلسني فيها وحيداً ليؤنس وحدتها في المستشفى، أذكره بالأدوية التي اقتسماها، بمرضهما معاً، الذي لم أذكر أنه انفرد بأحدهما دون الآخر.
جلست في مكانه الخاص، نصبت ساقي الأيمن كما يفعل ، بدأت أسكب وأرتشف فنجان قهوتي، أراها تنظر إلي بعينين ملأهما رجاء، أسكب لها فنجان قهوة كما كان يفعل، أغرس في قلبها طيفه وخياله علها تتذكره، لكن النساء يحببن من يلتصق بهن، ويبثهن لفح أنفاسه، أمسك بيدها الفضة، أطوف بها بعيداً، أغمض عيني كي أخلو بها، هناك نكون أكثر صدقاً ونقاء، أمعن في استجاشة ذكرياتها معه، ألصق عينيها بفواصل محددة، أبعث بها الحياة الأولى، أجلب لها أنفاسها القديمة معه، أسكب عطره الذي يلتصق معها به، أجيب على أسئلتها، أتجاوز كل كلماتي وأهرب إلى ذلك اليوم العيدي الحزين، أفصّله أمامها، أبدأ به من جديد ولكن إلى الخلف، لن أسمح بيوم واحد يعقب ذلك اليوم، أمد يدي بحنان وعفوية أطوقها بذراعي، أوجه بصرها إلى بداية ذلك اليوم العيدي المفجع من هناك سنبدأ العودة سوياً إلى أحلامنا وآمالنا، وبعد أن تتعارك أيامنا الجديدة بقديمها، أجدني أرى وجهك كما تركته لم ينخدش بحزن أو ذكرى من كل فواصلي التي اعتنيت باختيارها من منعطفات حياتهما لم أغادر حدثاً صغيراً أو كبيراً كان قد نبت في أيامهما إلا أحصيته وقدمته بين عينيها. لكن وهج عينيها يفوح بالثورة والنزق، لم تكبحة أوهامي كلها.
ü ü ü
دخل البيت في صمت كبير، صمت مشبوه مشحون بصدى الفجيعة، صمت موارب لا تبين به إلا رائحة الكلام التي تنمقت يوم الفجيعة، اختار عدد من الناس في ذلك اليوم عبارات جديدة عبروا بها كلام اليوم المعتاد، وقفوا أمامي معزين، كلماتهم تدك صمت بيتنا الآن، تزعزع حبال الصمت التي نسجتها الفجيعة الجديدة، والتي جعلت أذني بمنأى بعيد عن كل صوت آخر غير صوته القديم الجديد، الذي يفعل جرسه بأذني فعل السحر، فتنز الذاكرة به فجأة، وأراني حينها أعيش معه تماماً وبصدق أتملى وجهه كما لم أكن أفعل حين حياته، فأخرج من حالتي هذه غير مصدق بما حولي وأحياناً كثيرة يتسرب شك كبير في مكان وجوده فتخرج ذاتي من حيزها المستقر نوعاً ما إلى حيز آخر يشبه الجنون وبعد أن أجاهد في فتح محاجر عيني بقوة لأشاهد نفسي قبل أن أشاهد غيري أرى شكي الكبير يبدأ في التضاؤل شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح وخزة ضئيلة تنتابني في لحظات متباعدة.
ü ü ü
ليلة مترعة بالذكريات منذ خيطها الأول الذي انتظم بهدوء وسلاسة يحكي ويحكي، يقص علينا القصص ويلهمنا الأشجان المندثرة، تحط برجلك اليمنى عالمي بعد أن حططت برجلك اليسرى بيتي، أراكما بجانب بعضكما، تقرصني لحظة غارقة في القدم، انفضها بسرعة كي لا تفضح أمري أمامكما، أعقد محاكمة وأنصب ذكراه العبقة قاضياً، وبيته شاهداً، وأنتما متهمان، تتبدد الشكوى وتنتصران قبل أن تبدأ المحاكمة، يضيع المتهم وتضيع التهمة، والتهم أنا السخرية منكما.
تعود بي الذكرى وأنا ألحظكما في هذا الوضع المتلاصق.
عندما عدت مع والدي من خارج الوطن كنت في استقبالكما، قدري أن أكون أمامكما في ذلك الوقت، أدهشني شوقك وحبك لي في ذلك الوقت، كنت أشد التصاقاً بي على غير عاداتك أحس الآن بيدك القديمة تربت على كتفي.
أعود إليكما، تزدادان التصاقاً، أمنح أمي سؤالاً واحداً، حاداً مؤلماً أسدده في منتصف صدرها تماماً، أشيح بوجهي، أسمع ارتطاماً قوياً خلفي، أهتز خوفاً عليها، أفتح عيني أراها تتبجل بجانبك، تطوقك بذراعها.
ü ü ü
مساء أوائل الصيف أروع مساء يمر علينا، بهدوء نسماته، ورقة وعذوبة رائحة الياسمين المنتشرة في حديقة منزلنا، هدوء المساء يمنحني اطمئناناً لا مبرر له خارج ذاتي، أتوغل داخل ذلك الاطمئنان وأنعم في لحظاته ثانية ثانية، أتمرغ بين كلمات شعرية مؤثرة، أعاود قراءتها عدة مرات دون أن يتسلل ملل إلى نفسي، احتفل كثيراً بذاتي الهادئة، أمنحها كل ما أدخره في قاموس حياتي من كلمات عذبة ظليلة كأغصان واحة وارفة، تحجب عن نفسي كل عبث يقتحمها، داخلني شعور اكتنف مسار مسائي الرائع، يجب أن أذهب إليها وأرتمي في حضنها، يجب أن تشم رائحته التي عبق بها جسدي، ستنهار، وتسلخه من قلبها.
قابعة بصمت أمام مسلسل عربي يحكي مصادفة بعض حياتنا جلست بجانبها، تابعت واجماً معها المسلسل، حرصت ألا أقطع خيط انتباهها، أردت استيعابها المشهد كاملاً، غرقت معها في أحداث المسلسل، وبين حين وآخر، أقتنص النظر إليها خلسة لأقرأ أي انطباع جديد يثب على وجهها، رجعت إلى نفسي المكدودة أريد براحاً من الوقت لأتساءل مع نفسي كثيراً، دنوت منها قليلاً، رائحتها أصابتني بالدوار، دواراً لذيذاً مبهجاً، دنوت أكثر لاصقتها، خارت كل قواي أمام رائحتها، مارست معها ضغوطاً أقوى من إرادتي، أقوى من تفكيري وأشد وجعاً لي ولها.
لم أكن أختار نفسي في تلك اللحظة، غصت في أعماقها حتى ضللت طريقي، فززت في لحظة انتباه مباغتة، ابتعدت عنها قليلاً، لأتيح لها مشاهدتي بوضوح والنطق بالكلمة الصعبة التي ألصقت جسدها بالأرض، طافت نظراتها بهروب أحببته، كنت أشعر أنها تريد أن تقول شيئاً ولا تريد، تريد أن تبكي ولا تريد، مددت خطواتي للخارج وصوت بكاء متقطع يلاحقني.
ü ü ü
ضاقت فسحة البيت واحتدمت، لا أتصور أن هناك بيتاً يمكن أن يكون أقل حجماً من ساكنيه مثل بيتنا هذه الأيام، تقلص تحت أقدامنا، ضاقت زواياه ومنافذه وتقاربت جدرانه وهبط سقفه إلى مستوى رؤوسنا، ومع ذلك قررنا بصمت وباتفاق ضمني أن نتمدد قدر استطاعتنا، وأكثر بقليل من استطاعنا، قررنا أن نحتوي المكان بكل حواسنا، أن نمدده بأصواتنا وحركاتنا، ألا ندعه يسيطر علينا ويهزمنا، ليس أمامنا إلا أن نتفق على هذا الأمر مهما اختلفنا في غيره.
ليس أمامنا إلا أن نهبط سوياً من آفاق خلقها جهل أحدنا أو جهلنا معاً، إلى افق واحد نضع فيه كتفينا متلاصقين جداً، لينهزم المكان أمامنا، ليمكننا العيش داخله بحرية نسبية نقتنصها من بين أنياب الدهر.
كنت أنا الذي استعد دوماً على خوض كل المتغيرات الجديدة، كنت أنا الذي أقف أمامها، أجسد قوة المنعة كنت أنت تمر بين أروقة بيتنا بسمتك الظاهري المتصنع، كنت ترمقني عند باب غرفتي داخلاً أو خارجا، كنت أبتسم لك، وأكرر الابتسامة مراراً.
أراك تهم بالخروج، أقف متحفزاً أمام غرفتي، انتظر التفاته منك، لا تحسي بوجودي، أدلف غرفتي، أرتمي فوق سريري، تمتص برودة الفراش الحمى العالقة بذرات جسدي، أضع المخدة فوق رأسي وأغيب في حلم شقي، أخافه، ثم لا ألبث أن أستجلبه دون وعي.
كعادته يأتي عندما لا أريد غيره، يأتي عندما تحتدم نفسي وأشقى، لن يكون في أي حضور مبجل يسعدني به واعظاً، لا لن يعظني، لأن غيابه هو العظة الكبرى في حياتي، لن ألتفت إلى عضة غيرها، لن يأتي لي بأقوى منها لم يفعل ذلك، حضوره المبجل يلائمني جداً، يتخللني، يبتدع فكرة الصمت الممتد، يدرك أن صمته وحده يشفيني، ينفي عني الهم والنصب، صورته متلحفاً بصمته الممتد، تملؤني خدراً، أكون بحاجة إليه بعد كثر عناء، صورته بكل تفاصيلها الصغيرة الدقيقة تملأ لحظاتي، تملأ نفسي، تشبعني حد الامتلاء، بعدها أكون أكثر قدرة على السير طويلاً طويلاً.
ü ü ü
أجدها تنتظرك، أقحم نفسي معها وأنتظرك، أقف ممتداً أمامك عندما تعود، أسمع نبض خطواتك، تتقدم بهدوء وثقل، تهوي على المقعد وتنفث أنفاس تعبك، تقبع هي بجانبك كقطة أليفة، يملؤني جلوسها بهذا الشكل أسئلة شتى، ترفع رأسك، تستجلب نظرها نحوك، تتمتم لها بكلمات كثيرة، تقول إنك تعمل ليل نهار، تقول إن تجارة أخيك في خطر، تقول إني مازلت صغيراً لا أدرك شيئاً، وأخيراً أسمع صوت خطواتك المنسكبة إلى الخارج أهرع خلفك يسقط ضوء الشمس المنكسر على عيني، يزداد بعدك ويزداد لون آخر للحياة تصنعه الشمس فوقنا.
ü ü ü
اختلفت مع نفسي، أسائلها كم لبثت من السنين قبل أن تستلي خيطاً من خيوط الشمس الجديدة، هل مضى عام، عامان عشرة أعوام؟ لم أدرك تماماً كم من الأعوام مضت، ما أدركه فقط هو أنني استللت خيطاً من خيوط الشمس لأرى به دربي بوضوح، خرجت، سطعت الشمس في عيني، هربت إلى ظل قريب، أخذت أفكر بطريقة أعبر بها ضوء الشمس دون أن أغمض عيني، كان الضوء ساطعاً لامعاً، وعيناي ضعيفتان لا تقاومان.
ظل لساني معتكفاً داخل تجويف حلقي عندما قبعت أمامك، ظل نظري يجوب المكان رويداً رويداً بتأمل بالغ، كانت الأشياء حولي كأنها تلقي علي التحية، تعبر بطريقتها عن شوقها ولهفتها، كنت عندما أمرر نظري على الأشياء، اتبع نظري بابتسامة وكأني أرد التحية للأشياء، ديكور المكتب، خزائن الملفات لم تتبدل الأشجار التي تتمايل خارج المكتب ازدادت كثافة وظلاماً، حسدت الأشياء، صمتها كان إرادتها، صمتي أنا يرغم لساني على الانحباس، يطبق بأسناني على كل حرف يمكن أن يفلت، أرى كل شيء في هذا المكان ينتمي إلي، يلتصق بي وكأنه يلوذ بي، يبحث عن صوت أبي الوقور، يبحث عن ابتسامته النقية التي تملأ المكان، يبحث عن دفء أبي.
تقلب أوراقك، وقد احتواك الكرسي المسكين، لا تهتم بوجودي بجانبك عكس ما كنت أتوقع، ترفع سماعة الهاتف، تطلب رقماً، لا أرى من خلال حديثك معه أن اللحظة هذه مناسبة له، أخمن أنك تهرب، أجعله احتمالاً قائماً وأسلط نظري كله عليك.
فلا يمكن مع مرور كل هذه السنين أن أظل أمامك وفي هذا المكان بالذات.
هممت بزرعك داخل قلبي كشجرة نحيطها ودنا ورعايتنا، كنت أراك كشجرة أصلها في قلبي وفروعها تتمدد مع خطوط عروقي، أيقنت أنك شجرة لا يمكن أن تنمو وتخضرّ إلا إذا سقيتها، لم أجد بداً من أن أمد إليك حبلي السري لتنعم بالماء والغذاء ما نعمت أنا، ظلت الشجرة كما هي وقتاً لكن لون الموت جعلها تذوي إلى أن يبست.
تلقلب أوراقك، ونظراتي تبعد وتقترب، سأكون أمامك كي أرضي طموحك، سأسمح لك بالجلوس على كرسيه سأسمح لنفسي بالجلوس أمامك سنبدأ حياتنا الجديدة.
زرَّ عينيه وهو ينظر إلي، أكمل تقليب أوراقه، قمت من مكاني، ودعته بصمت، سمعت خلفي صوت أشياء تتكسر لم ألتفت إليه، ظللت أسير أمامي طريق طويل لم ألتفت خلاله لحظة واحدة سمعت صوتها يهدر والسماء تهمي، كان صوته يعلو ويهبط مراراً وصوتها يندس راجياً وقدماي تسيران إلى الأمام دون أن التفت لهم.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved