أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 22nd August,2001 العدد:10555الطبعةالاولـي الاربعاء 3 ,جمادى الآخر 1422

الثقافية

الشابي.. قيثارة الحب
لا يُقاس خلود المبدع بعدد السنوات، وإنما بقيمة ما أعطى، وروعة ما ترك، ولو لم تكن لأبي القاسم الشابي غير قصيدته التي يقول في مطلعها:
إذا الشعب يوما أراد الحياة..

لكفته أن تحمل اسمه الى سدرة المجد.. وهذا الشاعر الذي مات شاباً، ترك لنا شعراً كثيرا الأهمية، نتعرف على هذه الأهمية من خلال هذه الدراسة. ولد الشابي في الرابع والعشرين من شباط عام تسعة وتسعمائة وألف في بلدة «الشابية» جنوبي تونس، وعني والده بتعليمه في البيت، ولما بلغ الخامسة أرسله الى الكتّاب، وبعد الثانية عشرة أرسله الى العاصمة حيث التحق بجامع الزيتونة فكون لنفسه ثقافة جمعت بين التراث القديم والأدب الحديث. وعلى اثرتخرجه التحق بمدرسة الحقوق التونسية فتخرج فيها سنة ثلاثين وتسعمائة وألف.. وفي هذه الفترة أصيب بعدة صدمات، منها زواج غير موفق، لأنه كما يقول زكي أبو شادي لم ير في زوجته تلك الصورة الشعرية التي كان يرسمها للمرأة في قصائده، ومنها وفاة والدته التي شكلت خسارة مادية وأدبية هزت قلبه:


يا موت قد مزقت صدري
وقصمت بالإرزاء ظهري
وهدمت صرحاً في الحياة
تصدُّ عني كل شرّ

إن الألم الذي يقطر في كثير من قصائده، إنما هو نتيجة لخوفه من الموت، فلقد كان يراه شبحا لا يبقي على شيء من آمال، ولعله كان يحسب أن حياته المثالية ستستمر طويلاً، فإذا بها تتحول الى ألم وشقاء، وإذا بنا نرى تلك الأتعاب أدت الى إصابته بداء تضخم القلب فذابت أنفاسه الأخيرة آهات في أرجاء الكون، وتحطمت قيثارة الإنسانية، وصعدت روحه الى دنيا البقاء في التاسع من تشرين أول أربعة وثلاثين وتسعمائة وألف ومن يقرأ شعر الشابي يجد أنه يدعو إلى تأمل النفس وحب الطبيعة، فقد كان عميق الإحساس بما يحيط به.


ليت لي أن أعيش في هذه الدنيا
سعيدا بوحدتي وانفرادي
أتغنى مع البلابل في الغاب
وأصغي الى خرير الوادي

وأكثر ما تتمثل الطبيعة في قصيدته وأغاني الرعاة:


أقبل الصبح يغني للحياة الناعسة
والربى تحلم في ظل الغصون اليابسة

وهو الصادح عبر أشعة الشمس:


سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء

قد مد الشابي بينه وبين الطبيعة كل أسباب التواصل، بشفافية نفس تتفاعل مع الجمال. عاش مع الأشجار وبين الجبال وراح ينادي:


اسكني يا جراح
واسكتي يا شجون
مات عهد النواح
وزمان الجنون

ومما زاد من توهج جمال الطبيعة في عينيه، اطلاعه على أشعار الرومانسيين الأوروبيين أمثال: لا مرتين وبيرون.. وإعجابه بشعراء المهجر أمثال:
جبران وأبي ماضي.. على أن الشابي كا يرى محمد كرو يمتاز بدقة بالغة في تعبيره، وبراعة فائقة في تصويره.
إن الشابي بحساسيته ووجدانه وبحثه عن واحة لعواطفه، لم يستعذب إلا عناق الطبيعة من خلال المرأة التي تجمع في أغاني الحياة بين براءة الطفولة وجمال الورد:


عذبة أنت كالطفولة كالأحلام
كاللحن كالصباح الجديد
كالسماء الصحوى كالليلة القمراء
كالورد كابتسام الوليد

أحب الشابي رفيقة طفولته التي ماتت لفراقه فازداد ألما وراح يفرق همه بالشعر الباكي الحزين:


قد كان لي ما بين أحلامي الجميلة جدول
يجري به ماء المحبة طاهرا يتسلسل

فتعلق الشابي بالمرأة ليس قائما على المحاسن الجسدية، بل كان منصرفا الى مافي جوانحها من معاني العطف والمحبة، وهذه الحقيقة نجدها في رائعته في هيكل الحب:
أنت فوق الخيال والشعر والفن والنهى وفوق الحدود
وكانت إذا برقت للشابي بارقة أمل من ثغر امرأة جميلة، حملته تلك البارقة على أن يرى كل شيء أجمل مما هو في الواقع:


أراك فتحلو لديَّ الحياة
ويملأ نفسي صباحُ الأملْ
وتنمو بصدري ورودٌ عِذابُ
وتحنو على قلبي المشتعلْ

إن الشرارة الأولى في وطنية الشابي إنما اندلعت من اصطدامه بالواقع المتخلف هذه أمته يهيب بأبنائها أن سيروا في طريق الحياة:


خُلقت، طليقا كطيف النسيم
وحرا كنور الضحى في سماه
فما لك ترضى بذل القيود
وتحني لمن كبَّلوك الجباه؟

لقد آمن أن طريق النهضة هو يقظة الحس، فأخذ يشدد على هذه الظاهرة حتى يرى أثرها في التقدم أشد من الحرية، ومما نقرأ في كتاباته:
إن يقظة الإحساس روح الحياة.
وينطلق هتاف الشابي طليقا مؤمنا بالطموح، مترفعا عن الركود:


ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
لقد ثار الشابي على الأعداء

وهكذا نجد الشابي صوتا واقعيا، سابق الزمن بصوره الشعرية الى عوالم رحبة، وخلف تراثا أدبيا تضمن العديد من المفاهيم.
إن الشابي كما يرى النقاد قد تقدم عصره، وكان حسب محسن حميد الشاعر الوحيد الذي عاش مأساة شعبه كله.
ولعل الإنصاف في شأن الشابي كما يذهب عمر فروخ أن يقال إنه شاعر جاء في مقدمة الشعراء المعاصرين الذين التزموا عمود الشعر العربي.
رحل الشابي عن عمر لا يتجاوز خمسة وعشرين عاماً وكان صوتا متفردا، خسر الأدب بموته خسارة عظيمة، وهو يلفظ أنفاسه يتجلى لنا شاعر يحب الحياة، فيطلق آهته الأليمة التي ر ددتها الجبال والوديان، وترنمت بها قيثارة الزمن.
ولا نغالي حسب الدكتور عباس جرادي إذا قلنا إن الشابي مدرسة في الشعر العربي العربي أساسها أدب إنساني يصل الى أعماق الحياة.
علاء الدين حسن

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved