أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 24th August,2001 العدد:10557الطبعةالاولـي الجمعة 5 ,جمادى الآخر 1422

الثقافية

الكيس الصغير
نهض عامر من فراشه لصلاة الفجر لم ينم إلا ساعات قليلة.. وليستعد ليوم جديد إنه يوم الغوص.. ذلك اليوم الذي قد قلب مواجع الكثير من الأمهات والزوجات.. زوجته زينب لم تنم تلك الليلة لإحساسها بوجود شر قد يحدث لزوجها عامر.. الذي يعتبر من النواخذة القدماء الذين عاصروا البحر منذ القدم..
ومع وقت دخول فصل الشتاء.. ذلك الفصل الذي تكون فيه معظم حوادث غرق السفن.. وتحطمها.. وموت جميع من عليها في ذلك الوقت.. وبعد عودته من صلاة الفجر.. اتجه نحو غرفة ابنه كي يطمئن على حرارته.. قدمت زينب الإفطار.. وبعد إن أتم إفطاره التفت عامر لزوجته ومع ابتسامته المعروفة.. والمشهور بها عند كل شخص يعرفه.. وقال لها: اليوم يعتبر بداية لدخول فصل الشتاء والإبحار يعتبر مجازفة في هذا الفصل.. وما أن سمعت زينب تلك الكلمات التي عصفت مواجعها حتى قالت لزوجها: لماذا لا تنوب أحداً من أعوانك الجيدين كي يحل مكانك ولا تذهب هذا الشتاء.. ومع ابتسامة قال لزوجته: لا يوجد أحد أثق فيه غير أخيك محمود.. وهو غير موجود هذه الأيام ويحتمل أن يعود بعد أشهر من رحلته تلك.. انطلق عامر نحو مستودعه كي يعد ما يحتاجه في تلك الرحلة.. ومع تساقط زخات من المطر بدأت رحلة عامر وأعوانه من حوله يعملون بكل جد ونشاط.. وبعد ساعات من رحلتهم أزداد نزول المطر والرياح تلعب بمركبهم يمنة ويسرة والأوامر من النوخذة عامر تتزايد.. أصبح الكل يعمل بجد ونشاط.. مجموعة تقوم بإنزال الأشرعة وشدها بقوة، ومجموعة أخرى تجهز الشباك لإنزالها، ومجموعة تتأكد من «الديين» الخاصة بها عند الغوص للبحث عن اللؤلؤ.. وبعد مرور الساعات على إبحارهم.. توقفت الأمطار والرياح.. وازدان منظر البحر.. مع وحشية أعماقه.. أمر عامر أعوانه بإنزال الشباك للصيد والغوص بحثاً عن اللؤلؤ، مرت.. الساعات .. الأيام.. والشهور على رحلتهم.. وزينب تنتظر رجوع زوجها سالماً معافى.. وبعد أشهر من رحلة زوجها عامر.. عاد أخيها محمود من رحلته التجارية.. كان محمود أحد أعوان عامر السابقين ولم تعجبه رحلات الغوص تلك.. وفضل أن يذهب بمركبه للتجارة وأن يجلب البضائع من الدول البعيدة وبيعها بفائدة.. ومع وجود نفس مخاطر البحر فضل محمود ذلك العمل.. وبعد شهور من عودته جهز محمود نفسه ومركبه للسفر مرة أخرى.. وعلى غير عادته هذه المرة.. ولمغادرته باكراً.. ودع أخته زينب.. وانطلقت مركبته وهو يقول لأخته: سلميني على عامر.. وأخبريه بأنني متجه هذه المرة نحو الهند.. انطلق محمود في نفس الاتجاه الذي تعودت زينب أن تنظر إليه طوال اليوم كي تراقب قدوم زوجها.. وحبيبها.. وأبي ابنها عامر وبعد رحيله بساعات تلبدت السماء بالغيوم وبدأ نزول المطر وقابلتهم نهاية عاصفة شديدة قادمة من نفس اتجاههم.. ومن شدتها فقد محمود وأعوانه التحكم في اتجاه مركبتهم.. وبعد فترة هدأت العاصفة وظهر لديهم أن هناك شيئاً متناثراً على سطح البحر.. وبعد الاقتراب وجدوا حطام سفينة وقد تناثرت أجزؤها وإن هناك جثثاً طافحة على البحر.. وهناك أشخاص على قيد الحياة وهم في حالة جهد وإعياء كبير.. بسبب تعلقهم ببقايا حطام سفينتهم من أخشاب ولساعات قد أنقذهم من الموت.. أخذ محمود وأعوانه بإنقاذ من هم على قيد الحياة.. وعند قيام محمود انتشال آخر واحد منهم.. شد انتباهه وجود شامة في كتف ذلك الرجل أنه يشبه كتف رجل غال عليه الذي له الفضل في تعليمه أسرار البحار حتى أصبح نوخذة.. أدار محمود رأس ذلك الرجل بسرعة نحوه كي يتأكد من ملامح وجهه.. لقد ابهره ذلك الوجه بعد النظر إليه.. وصرخ قائلاً: النوخذة عامر، صوت محمود جعل عامر يصحو مع وجود شدة الإرهاق وأن يفتح عينيه بكل قوة كي ينظر إلى ذلك الصوت القريب إلى قلبه وبعد النظر إليه قال: محمود.. محمود.. ومع ابتسامة خفيفة أغمض عينيه.. لقد أصابته غيبوبة بسبب شدة التعب.. مع تعلقه الطويل على بقايا حطام سفينتهم من أخشاب ومع مجاراته لتلك العاصفة والبرد القارص في ذلك الوقت قد سببت له الإنهاك الشديد.. أمر محمود أعوانه بالرجوع إلى القرية لسوء وضع من تم إنقاذهم وبخاصة زوج أخته عامر.. أفاق عامر من غيبوبته بعد رحلتهم بساعات وقال: محمود.. أين أنت؟ وأجاب محمود بالقول: أنا بجوارك ياعامر.. عندها أدخل عامر يده لإحدى جيوبه المبتلة.. وأخرج كيساً صغيراً من القماش وسلمه إلى محمود وقال له وبصوت متقطع.. خذ هذه الهدية لأختك زينب وسلمني عليها وقل لها: بأنني حريص بأن أقدم تلك الهدية لها بنفسي ولكن الله شاء غير ذلك.. بعدها، نظر عامر إلى السماء وذكر التشهد وأغمض عينيه وكانت تلك آخر كلمة قالها قبل وفاته، وصل محمود قريتهم ودفن عامر.. وبعد نهاية فترة العزاء بأيام.. قدم محمود لآخته زينب هدية الوداع الموجعة التي سلمها له زوجها قبل وفاته.. وأخبرها محمود بما قاله عامر وبالحرف الواحد.. أخذت تلك الهدية من يد أخيها.. والدموع تتساقط من بين خديها.. ونحو غرفتها اتجهت.. ورمت بنفسها على فراشها.. وهي تقول: أين أنت ياعامر، ولماذا ذهبت؟ رفعت رأسها ونظرت إلى الكيس.. وفتحته.. إنها حوالي 20 لؤلؤة.. ذات القيمة الغالية في ذلك الوقت.. ولكنها أعادتها إلى الكيس ورمتها بعيداً وهي تقول وبأعلى صوتها: لا أريد اللؤلؤ... أريدك أنت.. أنت ياعامر أرجوك لا تتركني لوحدي.. تعال.. تعال .. تعال.
منصور عبدالعزيز القدير
* الديين: تعتبر من الأدوات القديمة التي تستخدم في الغوص حيث يعلقها الشخص على رقبته عند الغوص كي يضع في داخلها اللؤلؤ.

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved