أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 30th August,2001 العدد:10563الطبعةالاولـي الخميس 11 ,جمادى الآخرة 1422

الثقافية

«إيجيرو ناكونو» أول ياباني زار وكتب عن الجزيرة العربية
يوسف بن عبدالرحمن الذكير
لا يكاد شغوف بالتاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية، يلم او يحيط بذلك السيل الدافق من الاوربيين ممن زاروا وكتبوا عن الجزيرة العربية، خلال الثلاثة قرون الاخيرة فتراه يعوم ما بين دانماركي رائد واخر لاحق، وفرنسي مرافق لحمله نابليون على مصر، واخر مبتعث من قبله، وسويسري يحمل جواز سفر بريطاني، وتشيكي مبعوث من الامبراطورية النمساوية المجرية الراحلة، وروس ينتمون الى الحقبتين، القيصرية والسوفيتية الزائلة، اما الانجليز فحدث ولا حرج، اذ هم كانوا الاكثر عدداً، والاوفر شهرة، والاغزر تأليفاً. ورغم ان البعض منهم اتسم بالدقة، واخرون فضلهم لا ينكر في غزارة وتوثيق المعلومات، في وقت افتقرت به الجزيرة العربية الى الكفاءات المتخصصة في بحوث التاريخ، الا ان الغالبية العظمى من اولئك الاوربيين اتصفوا بالاستعلاء والنظرة الدونية للشعوب الاخرى، ولعل السبب الاول عائد الى ان كل اولئك انطلقوا من خلفية وذهنية اوربية، لا تخلو من عدائية، وخاصة تجاه العرب والمسلمين، الذين شكلوا التهديد الاطول والخطر الاكبر على هويتهم ومعتقداتهم حينما طرقوا ابواب باريس، واحاطوا بأسوار فيينا، واناروا البلقان والاندلس بمشاعل حضارتهم الخالدة في وقت كان فيه، معظم بلدان اوربا تتخبط في ظلمة الجهل، ودموية الصراعات.. القبلية والعرقية والمذهبية..
تلك العوالق والشوائب، التي كدرت معظم كتابات اولئك المستشرفين الاوربيين، ينجو ويصفو منها كتاب «يوميات رحلة في الجزيرة العربية»، لمؤلفه الياباني «ايجيرو ناكونو» اذ هو يخلو من سلبيات الخلفية العدائية والترسبات الذهنية. فكما هو معروف، فان اليابان، لا تعاني من خلفية تاريخية عدائية مع العرب والمسلمين، اما الذهنية، ففيما انطلق اولئك الاوربيون من موقف مسبق يرتكز على ثقافة اوروبية، تتسم بالعداء والاستعلاء، فان «ناكونو» لا يمكن ادراجه من شريحة اولئك المستشرقين، بل هو ينتمي، اتجاهاً وثقافة الى ما يمكن تصنيفهم بالمستعربين المعجبين بالتاريخ العربي والحضارة الاسلامية، بامتياز واعتزاز..!
قبل قدوم «ايجيرو ناكونو» الى الجزيرة العربية، برفقة البعثة اليابانية، قضى سبع سنوات في القاهرة في دراسة اللغة العربية والثقافة الاسلامية. لم يكتف بدراسة اللغة، بل تعمق في دراسة الادب العربي على يد ابرز اساتذته في حينها، اذ تتلمذ على يد عميد الادب «طه حسين» في جامعة فؤاد الاول (جامعة القاهرة)، فجاء التعاطف واضحاً من خلال ما ابداه من فرح في كتابه، حين ظن انه وصل الى موضع «سوق عكاظ» (وان صحح علامة الجزيرة الراحل حمد الجاسر (رحمه الله)، خطأ ظنه في تهميشه في الكتاب)، فذكر مدى اعتزازه بالوصول الى موطن شعراء المعلقات من امثال امرؤ القيس والنابغة الذبياني، وعمرو بن كلثوم، وزهير ابن ابي سلمى، حسب تعداده لهم.
اما ثقافته الاسلامية، فكانت في الازهر الذي درس فيه خلال تلك السنوات. وقد تجلى ميله للاسلام اوضح ما تجل، حينما توضأ مرافقوه وبدأوا يصلون فقال نصاً: (كان لدي شعور واحساس بالرغبة في اداء الصلاة).. اضافة لاستشهاده بالعديد من الايات القرآنية الكريمة، التي رصعت صور منها صفحات الكتاب.
الظاهرة الثانية، الجديرة بالتفسير، تكمن في ندرة وتأخر اليابانيين مقارنة بالاوربيين في زيارة والكتابة عن الجزيرة العربية، ففيما هناك عدد يصعب حصره، طوال ما يزيد على ثلاثة قرون ممن زاروا وكتبوا عن الجزيرة العربية خلال الثلاثة قرون الاخيرة، يندر ان تجد يابانيا اخر زار وكتب عن الجزيرة قبل القرن العشرين (.. قد يكمن السبب الاساس في الفرق ما بين الشخصية والتراث الاوربي عن مثله الاسيوي.. ففيما تتسم الشخصية والتراث الاوربي بشهوة الهيمنة واستعباد الشعوب، والسعي الى التوسع وبسط النفوذ، نرى الاسيوية على العكس من ذلك تماماً.. ذلك ما يرويه ويشهد به التاريخ!..
فرغم عراقة وقدم الدولة الملكية اليابانية، التي يشهد عليها أن العائلة الملكية اليابانية الحالية هي الاقدم على الاطلاق، فلم يسجل التاريخ للياباني اطماعاً او محاولات غزو لبلدان الشرق الاوسط عامة والبلاد العربية والاسلامية بصورة خاصة. اما الصين التي شهدت قيام اعرق امبراطورية وحضارة بشرية، بل ووصلت اساطيلها الى البحر الاحمر وجدة، الا انها انكفأت عائدة دون ان يتبعها غزو واستعمار او استغلال للجزيرة او بلدان الموانئ الاسلامية الاخرى التي وصلتها.. فيما التاريخ يزخر بحملات الغزو والاستعباد والاستعمار الاوربي للبلدان العربية، بدءاً من الاسكندر المقدوني والامبراطورية الرومانية، مروراً بالحروب الصليبية، وانتهاء بتشطير وتقسيم الدول العربية بين مختلف الدول الغربية حتى امسنا القريب، والتي لا يزال نفوذها يهيمن على الكثير منها حتى وقتنا الحاضر!!.. لعل في ذلك بعض التفسير على كثرة زيارات وكتابات الاوربيين المبتعثين من حكوماتهم، او من جمعيات جغرافية اوروبية، فيما زيارة «ايجيرو ناكونو»، لم تتم الا بدعوة رسمية، من حكومة المملكة العربية السعودية وبتوجيه من جلالة الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه).. ولكن لتلك الدعوة قصة، جديرة بان تروى لما تحفل به من معان، تستحق التمعن، بتجرد لا يغفل ما لكل جانب، من مآثر ومناقب.
في شهر مايو من عام 1938م (1357ه)، اقامت حكومة اليابان حفلاً لافتتاح مسجد ساعدت في انشائه في ضاحية (يويوغي) من العاصمة طوكيو.. وفي ذلك سابقة ومأثرة لحكومة اليابان، لا تدانيها فيها حكومة اخرى، سواءً شرقية كانت ام غربية اذ لم يسبق لحكومة دولة غير اسلامية، ان احتفلت، ناهيك عن المساعدة في اقامة مسجد اسلامي في عاصمتها!.. ما ان انهى الى علم الملك عبدالعزيز (رحمه الله)عزم حكومة اليابان على اقامة ذلك الحفل، حتى اوفد سفيره «حافظ وهبه»، لحضور حفل الافتتاح وتوجيه دعوة رسمية، تقديراً لحكومة اليابان لايفاد وفد رسمي، توطيداً للعلاقات.. وفي ذلك مآثرتان..!
اولاهما، تكمن في مدى حرص الملك عبدالعزيز على نشر رسالة الاسلام رغم ضآلة الموارد وضعف الامكانات آنذاك، وثانيهما تبرز ما يتمتع به الملك عبدالعزيز من نظرة ثاقبة في اتباع سياسة منفتحة على جميع البلدان، بغض النظر عن اتجاهاتها السياسية. نظرة ثاقبة لا تنم عما يتمتع به المؤسس العظيم من بعد نظر فحسب وانما مدى اتقانه (رحمه الله) لخبايا وخفايا السياسة الدولية، والتي تؤكدها بوضوح، حادثة اشار لها «ايجيرو ناكونو» في كتابه..!
فقد كتب يقول، انه اثناء توقفهم في «خب» وهم في طريقهم الى الرياض، لقضاء الليل، واثناء استعدادهم للنوم، اقبلت سيارتان مسرعتان، ما ان وصلت لخيامهم، حتى ترجل منها شخصان يرتديان ملابس انيقة، الاول منهما في الخمسين من عمره ذو لحية بيضاء، فيما الثاني اصغر سناً وبلحية اصغر. كلاهما يجيد التحدث بالفرنسية، فعلمنا منها، ان الاول هو خالد ابو الوليد (القرقني) مستشار الملك عبدالعزيز، فيما الثاني هو سكرتيره الشخصي، وقد حضر للسلام علينا، لعلمهم اننا من ضيوف الملك عبدالعزيز، كما اخبروهم انهم في طريقهم الى جدة للسفر من هناك لحضور مؤتمر دولي في باريس.. الا ان ما اثار فضول كاتب الكتاب، هو الطلب منهم بألا يخبروا احداً عن لقائهم!.. (.. فما كان منه الا ان تقصى، ليعلم بعد فترة طويلة، من مصادر اخرى، ان السفر الى باريس لم يكن الهدف منه حضور المؤتمر، بل كان الهدف السفر من هناك الى برلين في مهمة خاصة!.. ذلك ما يعكس لا مدى اتقان المؤسس للعبة السياسة الدولية ومحاورها، بل ويبرز مدى شجاعة وجرأة الملك عبدالعزيز (رحمه الله) في طرق كل الابواب سعياً وراء مصلحة بلده، حتى الالمان المعادين للانجليز، اقوى واكبر امبراطورية في ذلك الحين. وغني عن القول ان الملك عبدالعزيز كان اول زعيم عربي يتعاقد مع الامريكيين، رغم ما عرف عنهم من سياسة انعزالية في وقتها، وضآلة نفوذهم العالمي في حينها، مقارنة ببريطانيا العظمى، والتي كانت مناطق نفوذها تحيط ببلاده كاحاطة السوار بالمعصم !.. وتلك سياسة حكيمة اتبعها ابناؤه من بعده، لعل ابرز ما يجسدها الزيارات الرسمية المتعددة وعلى اعلى المستويات، لا للاقطار الاوربية، والدول الاسيوية الكبرى فحسب، بل وحتى لدول امريكا الجنوبية، وخاصة في السنوات القريبة الماضية (رُب صورة خير من الف كلمة» فما بالك بتسع وستين صورة نادرة، يحفل بها الكتاب ..! تلك ميزة فريدة لا يضاهيها كتاب اخر عن المملكة العربية السعودية، اذ ان تلك الصور، تروي بكل صدق وموثوقية، ما شهدته المملكة في نهضة جبارة، خلال فترة لا تزيد على ستة عقود.. يكفي المقارنة ما بين صور الاطفال واسواق الرياض في ذلك الحين والان.. اطفال خلفهم عشش من سعف النخيل فيما معظمهم ينعم الان بالمساكن والمدارس والعناية الصحية، والخدمات العصرية.. شتان ما بين اسواق الرياض انذاك التي لا تعدو عن دكاكين خشبية وطينية وما تزهو به الرياض من مجمعات تجارية بتصاميمها الهندسية الرائعة، ومبانيها الفاخرة.. وكيف نقارن ما بين طرق رملية وصخرية عانى منها المؤلف ما عانى طوال ايام وليال من جدة الى الرياض، تظهر واضحة جلية في تلك الصور وبين ما تتمتع به المملكة الان من طرق معبدة سريعة رغم المسافات الشاسعة!.. ولكن الصور لا تقتصر على اظهار ما للمملكة من مآثر، بل هي تظهر ما للجانب الاخر من محاسن.. اذ تظهر احدى الصور الوزير المفوض الياباني، وهو جاثياً امام نبتة صحراوية مزهرة، محاولاً رسمها بكل دقة واهتمام!..
دقة واهتمام تميز بهما الشخصية اليابانية، لامن خلال تلك الصورة فحسب، بل ومن خلال ما ترويه صفحات الكتاب !.. فالاهتمام الياباني بالصناعة، يتجلى بوضوح من خلال تركيز المؤلف على ذكر صناعة كل ما يراه من اثاث ومعدات وبضائع..!
فالسجادة والمناشف صناعة مصرية.. الستائر والمحبرة والأقمشة، صناعة يابانية.. السرير ومضخة المياه امريكية الصنع، فيما الهاتف والصابون ومعدات الحمام صناعة بريطانية، مما يدل على اهتمام وحرص اليابان باللحاق بالدول الصناعية الكبرى، منذ وقت مبكر.
اما الدقة، فلعل اوضح ما يبرزها، دقة المؤلف في وصف وحساب كمية المياه المستخرجة بما اسماه الات ضخ المياه العربية (السواني). فهو لا يكتفي بوصف ابعادها، من عرض وارتفاع بالسنتمترات، ولا الفرق ما بين اطوال حبل (الرشا) وحبل (السريح) بالامتار، بل ويمضي في حساب كمية المياه بطريقة دقيقة ومسلية، حينما يقارنها بما رآه في مصر من آلة «الساقية» فيقول:
«السانية العربية اعقد تركيباًَ واكثر اجهاداًَ من الساقية المصرية، فحين حسبت خطوات الحمار (او الجمل)، وكم من الوقت يستغرق في الذهاب والاياب، فكانت دقيقتين وكمية ما يخرجه من الماء في كل دورة حوالي عشرة ليترات، مما يعني ان كمية المياه المستخرجة في الساعة الواحدة، حوالي 300 ليتر، وهي كمية كبيرة، بتلك الامكانيات!.. الا انه يضيف قائلاً بتندر وتفكه.. الا ان البقرة المصرية اسعد حالاً من الحمار العربي.. فإضافة لكونه يعمل ليل نهار، فهو يسير باتجاهين، فيما البقرة المصرية تدور باتجاه واحد!..
ربما كانت الميزة الاهم للكتاب، تنبع من ان المؤلف من قلائل الرحالة الذين قابلوا شخصياً كلا من الملك عبدالعزيز والملك سعود (رحمها الله)، فوصف الجانب الانساني في علاقته بابنائه من جهة، كما حفل بشهادة تاريخية موثقة، عن وجهة نظر الملك عبدالعزيز في واحدة من أهم ما عاناه العالمين العربي والاسلامي من مخاطر، الا وهو الخطر الصيهوني، الذي لا زال ماثلاً، يهرق الدماء ويقلع الاشجار ويحطم المنازل ويرمل النساء، فيما الضمير العالمي يتشدق بالعدالة وحقوق الانسان!!.
فرغم ان اليابان لا ضلع لها في استقدام اليهود او ما قدم لهم من عهود ووعود، في ذلك الحين، لكنه قال للوفد الياباني، الذي كان المؤلف احد اعضائه الثلاثة في اول مقابلة لجلالته معهم:
«اليهود كانوا دائماً اساس الصراعات.. وقد ارسلت الى الرئيس الامريكي روزفلت رسالة خاصة قلت له فيها، ان اليهود سوف يتسببون في ايجاد مشكلات عديدة في جميع انحاء العالم».. وتلك شهادة ووثيقة سبقت لقاء جلالته بالرئيس الامريكي، على ظهر السفينة الامريكية «كونيس» في قناة السويس بما يقرب من عقد من الزمان .. فليت الامريكيين استمعوا واتبعوا رأي ونصيحة جلالته، فلربما ما عانى الوطن العربي ما عاناه من ويلات.. وانقلابات!.. ولا عانت الولايات المتحدة ذاتها ما تعانيه الان، من هيمنة يهودية على مراكز المال والاعلام والقرار.. بكل ما يعنيه من تحكم في مقدرات وسمعة الشعب الامريكي الصديق!..
كتاب غني بالصور، ثري بالوثائق لا يخلو من نوادر، لابد وان يستأثر باهتمام، لا المختصين بتاريخ المملكة فحسب بل وحتى الشغوفين بحقائقه، فان رد الفضل لاهله فالفضل كل الفضل لدارة الملك عبدالعزيز التي اهتمت بترجمته وتصحيحه ونشره، بطباعة متميزة وورق صقيل واخراج جميل.
أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved