أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 11th September,2001 العدد:10575الطبعةالاولـي الثلاثاء 23 ,جمادى الآخرة 1422

الثقافية

الرحيل على إيقاع جنوبي
قصة.. سهيل نجيب مشوّح
بخطى حثيثة سار الى حتفه،
يحمل أوجاعه، ووجه الأحبة، وأنين الأصدقاء الذين قاسموه المشافي، وعناء الغسيل بعد النوبة المؤلمة.
مات بعد ان خانته كليتاه، وقبل ان يفقد آخر دفقة من نور.. لملم آلامه المزمنة، وآخر كلماته، وزرقة البحر، ورائحة الكادي.. تأبّط صورة زوجه وطفليه، ثم لوّح بيدين ناحلتين، و... رحل.
مضى سعد ليتابع أسفاره في عالم آخر أكثر نقاءً، بعد ان أعياه السير على اليابسة، وإذ فقدت الأنهار عذوبتها، وصارت البحار طريقاً للقوافل المريبة.
أرخى قلبه للموت، واستسلم للبردوة، والصفرة الباهتة، فأطلق ساقيه في براري الراحة، لأن حصون الشجاعة التي تخفّى خلف اسوارها الشاهقات لم تمنع عنه الوجع المباغت، ولم تدرأ عنه الغصة القاتلة، بل باعدت بينه وبين غيوم الأماني التي طارد فلولها في فضاءات المدن.
أدمن سعد آلامه الى حين. صار إذا بات ليلة هانئة يبحث في صباحها التالي عن ألم يتربص بأقصى اعضائه، فيستدرجه للخروج من مكمنه ليطمئن على حلم يراوده في الليلة التالية.
لم يلعن الألم، ولم ينكر اعضاءه المتساقطة الواحد تلو الآخر، ولم ينس رائحة الموت، وطعمه، وألوانه القاتمة، بل لعب بالطين والماء، وركب البر والبحر، وتسكّع في المدن الصاخبة، حتى لامس أطراف القرى النائية، وحين رأى بشراً صاغرين ، وحقولاً تتثاءب، وأنهاراً أنكرتها الضفاف.. وحين رأى الفراش يحوّم فوق الجثث المتحركة، ورأى القمر في عز النهار.. شعر بشيء من الخوف والحمى، ثم سقط مثل ثمرة طازجة قبل ان يبوح بأسراره لأحد.
* *
لم يبق له الزمن شيئاً من عزيمته، ليتمكن من رفع إحدى يديه النحيلتين المعروقتين الى وجهه المتغضن الذي غدا وليمة للذباب الفضولي.. (ربما عرف بأسباب ضعفه!).
كان يدخر ما لديه من قوة ليمسك بقلمه آخر النهار، ليكتب شهادته على زمن يتلوى في أطوار التهلكة، وقطيع من الكائنات الرخوة فقدت كل ملامحها، وتضاريس تحتضن خطايا الكون، وملايين الجثث المرصوصة سواسية تحت تراب واحد.. الشهداء.. وعتاة الإجرام.. ولصوص السلم مع الأبرار.
هدّه المرض والخوف والقلق، حتى بدا في اربعينه كشبح خرافي تسلل من عصور غابرة، وقد قاده هذا الثالوث الى الهذيان، فسار مع آلامه دون خوف او وعي، لأنه كما أسرّ لصديق ذات يوم يرى في طفليه أفقاً لأحلامه وفي زوجته سلمى نافذة يطل منها على عالم مشتعل بالضياء، وسلمى مهره التي يجوس بها حقول الحياة، وشمسه التي يتمرغ بدفئها حين تهزه قشعريرة الألم والخوف.
قبل سنين مضت، كان سعد حلم البنات، وفارسهن، وكان ناصعاً .. نقياً، يستوي على عرش من العفة والطهارة، وكان عاشقا حينها.
* *
ذات ليلة، وحينما عاد الى غرفته في الفندق حيث يقيم، وقبل ان يأوي الى فراشه بعد عناء يوم شاق مهمة العمل اللعينة تفرض عليه طقوساً يكرهها أشعل أعواد البخور المختلفة، فعبق فضاء الغرفة برائحة الصندل والعنبر والمسك، وتغلغل الطيب الجاوي والكمبودي في أقصى رئتيه، فأحس بسحر الشرق وروعته يغمر جسده والمكان.. انها عادة قديمة تعوّدها منذ الصغر، حين كانت أمه تشعل رزمة من البخور، وترش على وجه الجمر وريقات الشجر الهندي، والأعشاب السيلانية، وتطوف بشعلتها ارجاء البيت، وتلامس شقوق الجدران، والعتبات، وخلف الأبواب، لتطرد شياطين الجن، وشياطين الأنس الحاسدة.. الحاقدة، وإذ يحتجّ واخوته الصغار على تقاليد أمه، ودخانها الخانق، كانت تجيبهم: انني احميكم من شر حاسد إذا حسد، فيذعنون أمام إصرارها، ويقينها بنفعه.
كبر سعد، ولازمته تلك العادة مع قائمة الوصايا، والمحرمات التي حفظها عن ظهر قلب، فتزوج باكراً، وأنجب طفلين وظل على استقامته، فسار الى النجاح بعزيمة قوية، ولم يلتفت حواليه كثيراً، فاحتارت فيه العيون المتربصة، والاجساد المحشوّة بالضغينة والحسد، وكلما احرز نجاحاً ازداد كيدهم، وتضخمت احقادهم، ولم يعد بخور أمه قادراً على تفرقتهم. لكنه يقول لنفسه: (انهم صدأ يأكل بعضهم بعضاً)، وظل يقاومهم بالصبر والبخور حتى حلّت تلك الليلة اللعينة.
* *
امتلأ صدره برائحة البخور، وملأت فضاء الغرفة سحابة من دخان أزرق كثيف.. ودّع شياطينه، واخرج صورة العائلة من محفظته، تحسس وجه زوجته، وقبّل طفليه، وآوى الى فراشه مطمئناً.
* *
شاعت أخبار انكساره في كل مكان، وبأن وهج الشماتة في عيون الجميع، وانتصبت بينه وبين أحلام البارحة جبال شاهقات، وتفجرت أنهار وبحار، ونبتت صحارى، وتمددت سماوات لا حصر لها..
قالت زوجته: هبني آخر قطرة من روحك الصافية للوداع قبل ان نفترق.
قال لها: وما بيننا يا سليمي؟!.
ردّت بأسى: لم يعد ما بيننا يبهج القلب.
حاول أن يمسح الغبش عن نوافذ بيته ليطل على العالم من جديد، فلم يفلح.. حاول ان ينفخ جذوة حبه لتتوهج ثانية، فانطفأت.. أقسم وبكى وهزل، فبقيت على عنادها.. حمل صورة الولدين، ووجهها النقي، وأحزانه، وبعض الذكريات الحميمة، وهمس مجروحاً: وداعاً.
أهكذا ترحل يا سعد؟!. تهرب من أوجاعك المزمنة، ورؤاك الملبدة بالكوابيس. تهرب من بخور أمك، وعيون الصغيرين، ووجه سليمى، وتمتمات عشقها.. «ودان دان ودانه يا سعد لا تنسانا». ترحل مضمخاً بالبخور، والورد الطائفي، ورائحة الكادي. ترحل وحيداً، وتمضي الى مشتهاك يشيّعك الخصوم الحميمون بالشعر..
إرحل يا سعد، فقد قهرت الوجع، و«دان دان ودانه..».

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved