أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 14th October,2001 العدد:10608الطبعةالاولـي الأحد 27 ,رجب 1422

الثقافية

بعد أكثر من 30 عاماً على و فاته
صدور أول سلسلة أعمال باكثير المجهولة
دور مكتبة مصر
ترك الاديب العربي الكبير الاستاذ علي أحمد باكثير (19101969م) تراثاً ادبياً كبيراً مخطوطاً يتمثل في عدد من المسرحيات والقصص فضلاً عن دواوينه الشعرية التي لم تنشر في حياته.
ورغم مضي أكثر من ثلاثين عاماً على وفاته إلا أن جزءاً يسيراً من هذه الأعمال ظهر إلى النور. ولولا اهتمام ووفاء مكتبة مصر التي كان لها شرف تقديم أعمال باكثير وغيره من ابناء جيله مثل نجيب محفوظ وعبدالحميد السحار وغيرهما من مطالع الاربعينيات الميلادية، واعادتها طبع هذه الأعمال لما رأت أعمال باكثير التي نفدت طبعاتها السابقة النور من جديد
فاوست الجديد
وقد أصدرت مكتبة مصر بالقاهرة مؤخراً مسرحية (فاوست الجديد) لباكثير ضمن سلسلة اعمال باكثير المجهولة التي وعدت مكتبة مصر بتقديم اعمال باكثير التي لم تنشر في حياته. وقد صدرت (فاوست الجديد) بدراسة نقدية مقارنة كتبها الباحث الدكتور محمد أبو بكر حميد الذي اكتشف هذه الأعمال المجهولة ووعد بتقديمها لمكتبة مصر في هذه السلسلة الجديدة التي لقيت ترحيباً في الاوساط الادبية واعتبرت افضل عمل جاد يكرم به باكثير بعد مضي اكثر من ثلاثين عاما على وفاته.
كتب علي أحمد باكثير مسرحية (فاوست الجديد) سنة 1967م، وتركها مخطوطة مع عشر مسرحيات وأعمال أخرى عثرنا عليها في مكتبه بعد وفاته بعدة سنوات. وكان من حظ هذه المسرحية ولأهميتها أيضاً أن باكثير قدمها لاذاعة البرنامج الثاني بالقاهرة، فاذاعتها سنة 1968م. وقد تكررت اذاعتها بعد ذلك أكثر من مرة، وأدى هذا إلى تسرب النص إلى أيدي الباحثين والدارسين، فتناولته معظم الأعمال التي تعرضت لدراسة اسطورة فاوست في المسرح العربي.
رؤية جديدة للأسطورة
وقد أوضح د. حميد في مقدمته التي تشمل دراسة فنية وفكرية للمسرحية رؤية باكثير الاسلامية في النظر إلى الاساطير الاجنبية بقوله:
وينفرد باكثير برؤية غاية في الأهمية وسعة الأفق، يعطى بها للادب العربي بعداً عالمياً حين يرى أن استلهام الأساطير الأجنبية وتاريخ الحضارات الإنسانية البعيدة عن الإسلام زماناً أو مكاناً، تعد أهم جسر عبور للأدب العربي إلى العالمية. شريطة أن يصب الأديب العربي في هذه القوالب الفنية، مضموناً يعكس بصدق واخلاص فكر أمته وفلسفتها في الحياة، وبالتالي فإن الشعوب الأخرى التي تطلع على هذا العمل الفني المستمد موضوعه من تراثها، لن تجد صعوبة في فهمه واستيعاب المضمون الجديد الذي حمله.
ويرى باكثير أن احداث التاريخ والاسطورة خاصة تعين الكاتب على اعادة تشكيل مادتها الفنية بحيث تلائم المضمون الذي يريد صبه فيها (1). وفي هذا الصدد يقول ما نصه *وايا كان الموضوع الذي يعالجه الاديب العربي سواء كان عربياً أو غير عربي، فالعبرة بالروح التي تكمن في مضمون العمل الأدبي، إذ يجب على الدوام أن تكون عربية اصيلة. وبهذه الطريقة يستطيع الأديب العربي أن يعالج ما يشاء من الأساطير الفرعونية أو السومرية أو اليونانية أو الهندية علاجاً جديداً يتسم بالروح العربية، ويعبر عن وجهة النظر العربية، ويصور موقفنا من قضايا الوجود والكون والحياة. وبهذه الطريقة أيضاً يستطيع الأديب العربي أن يجسد الرسالة العريبة الخالدة (الإسلام) في عمل أدبي حي، يعرف العالم كله موضوعه في صورته الأسطورية الأولى، فلا يجد أبناء الامم الأخرى صعوبة في فهم وإدراك المغزى الجديد الذي يحمله ذلك العمل، ومن ثم يتأثرون به، فيتأثرون في الحقيقة بالمعاني المنبثقة من رسالة العرب الخالدة< (إذاعة الكويت أبريل 1969م).
فلا عجب إذاً أن يبدأ باكثير حياته الأدبية في مصر بتأليف مسرحية يستمد قصتها من التاريخ الفرعوني وهي مسرحية *اخناتون ونفرتيتي). وقدم في هذه ا لمسرحية تفسيراً إسلامياً لفشل اخناتون في نشر دعوته (2). وبمثل هذا المنهج عالج باكثير اسطورة أوديب الإغريقية البعيدة عن الإسلام وتاريخ الإسلام في مسرحية *مأساة أوديب<.
مندور وباكثير
ويروي د. حميد على لسان باكثير هذه الحادثة الطريفة ذات الدلالة. كان أحد النقاد الكبار قد اعترض على المضمون الإسلامي الذي عبر عنه باكثير من خلال هذا الشكل الفني الإغريقي. ويروي باكثير ما حدث معه فيقول :*ولعل من الطريف أن أروي حادثة وقعت لي مع ناقد مرموق من نقادنا المحدثين توفي منذ بضعة أعوام (رحمه الله قال لي في موضوع التعليق على مسرحية *مأساة أوديب< بأي حق يا فلان جعلت أوديب يعتنق الإسلام، وهو وثني اغريقي عاش قبل أن يظهر الإسلام بعشرات القرون؟ فقلت له: وماذا: يضيرك يا دكتور؟ إني لو وجدت مذهباً أو عقيدة أسمى من الإسلام، وأقرب إلى المنطق والعقل منه لجعلت أوديب يعتنقه، ولكن ما حيلتي، لم أجد أسمى ولا أعظم من الإسلام< وأقرب الظن أن هذا الناقد هو د. محمد مندور.
ويعلق باكثير على هذه الحادثة فيقول:*والواقع أن ذلك الناقد وأمثاله قد فقدوا الإيمان بأمتهم، ورسالتها، ففقدوا الإيمان بانفسهم وفتنوا بالأفكار التي غرتهم من الخارج فاستسلموا لها راضين مختارين، فلا غرو أن يزعجهم صوت ارتفع من ضمير أمتهم وطفق يقرع أسماعهم مذكراً إياهم بالحجة والبرهان، أنهم حين تركوا تراث امتهم وتعلقوا بتراث غيرها كانوا قد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير<. (اذاعة الكويت، بصوته، أبريل 1969م).
وهذا يؤكد أن موافقة نقاد هذه المرحلة من ذوي الميول اليسارية والماركسية من أعمال باكثير كانت مواقف عقائدية وليست نقدية على نحو ما فعل د. شمس الدين الحجاجي في كتابه *الأسطورة في المسرح المصري المعاصر<. الذي لم يستطع أن يرى محاسن الشكل الفني عند باكثير، واعتبر الالتزام الإسلامي عند باكثير نقط الضعف في فنه؟! وهذا من عجائب النقد وهزائمه وافلاسه في العصر الحديث!
الشكل الفني الجديد
أما من الناحية الفنية فقد استعرض كاتب المقدمة ملامح الشكل الفني الجديد الذي اصطعنه باكثير لهذه المسرحية، واعتبرها د. حميد اكثر مسرحيات باكثير تطوراً فنياً وفكرياً معاً وقال: اتجه باكثير في مسرحيات المرحلة الأخيرة من حياته إلى الشكل الفني الذي يقوم على *العمق< في رسم الشخصية والحدث الدرامي. واقتضى تحقيق هذا الغرض الفني منه أن يسير بالأحداث أفقياً لا رأسياً، وأن يعطي عناية أكبر للبعد النفسي للشخصية، ولهذا اقتصر المؤلف في (فاوست الجديد) على عدد قليل من الشخصيات وعدد أقل من الأحداث، وذلك على عكس ما فعل جوته في مسرحيته.
ويتضح من الدراسة أن باكثير خطط لهذه المسرحية تخطيطاً محكماً بعدد قليل من الشخصيات وعدد اقل من الاحداث. ويمكن تلخيص البنية ا لاساسية للحدث الدرامي كما وضعه كاتب المقدمة على النحو التالي:
ففي الفصول الأربعة للمسرحية لا يحمل كل فصل أكثر من حدث واحد اساسي. وان يصنع موقفاً والموقف يقود الحركة الدرامية طوال الفصل ويصعد الصراع إلى الفصل الذي يليه. ففي الفصل الأول يتمثل الحدث في يأس فاوست من الحياة بسبب ابتعاد مرجريت عنه وعدم وصوله إلى معرفة الحقائق الكبرى مما يؤدي إلى *موقف< نتيجته الاتفاق مع الشيطان. وفي الفصل الثاني نجد *الحدث< يتمثل في غرق فاوست في المتع الحسية وحياة المجون التي جلبها له الشيطان من جهة واكتشافه أن الشيطان يعرقل طريقه للمشاريع العلمية التي تفيد الإنسانية، فيكون *الموقف< اكتشاف فاوست لحقيقة الشيطان وبداية وعي جديد في حياته ينتهي بمحاولات السمو بروحه فوق ملذات الجسد. وفي الفصل الثالث يكون *الحدث< في وصول بارسيلز إلى قمة الضلال حين يتآمر مع الشيطان على صديقه فاوست ويصل فاوست إلى قمة الهداية حين يرفض بيع مكتشفاته العسكرية لأي من الدولتين الكبريين حتى لا تستخدم لابادة البشرية واستبعادها، ويكون *الموقف< قرار فاوست أن يترك الشيطان بلا رجعة وأن يطلب العلم من الله وحده. وفي الفصل الرابع والأخير يكون *الحدث< في أنباء دخول جيوش الدولتين الكبريين للبلاد للاستيلاء على مكتشفات فاوست فيكون *الموقف< اقدام فاوست على احراق كل الاوراق المتعلقة بمخترعاته العسكرية حتى لا تقع في أيدي الذين يدمرون الحضارة البشرية.
وقد اطلق كاتب المقدمة على هذا التقسيم مسمى الدرامي مسمى*المسار الافقي<، فالصراع في كل فصل عبارة عن *حدث و*موقف< أو *فعل< و*رد فعل< كانت ردود الافعال تقف وراء *الموقف< الذي ينتهي به *الحدث< في نهاية الفصل ويكون حلقة في الصراع الصاعد الذي يقوده فاوست من اجل الوصول إلى تحقيق أهدافه الكبرى. وبهذا التصور تقف *الأحداث الدرامية< متجاورة على خط أفقي أما *الموقف< أو ردود أفعال البطل نحوها فهي تمثل خط الصراع الصاعد الذي يربط بين هذه الأحداث جميعاً إلى نهاية المسرحية. ومن هنا كان الحدث الدرامي في المسرحية أشبه بحجر يلقى في بئر أو بركة ماء فينشر مساحات أفقية على السطح ثم يغوص إلى الأعماق السحيقة. ولهذا كانت الحركة الدرامية الحقيقية للصراع تحدث في أعماق فاوست، وأن ما كان يحدث أفقياً على السطح لم يكن إلا أثراً من آثارها. فلا عجب إذن أن نجد *الحوار الذهني< يشكل في هذه المسرحية عنصراً أساسياً من عناصرها، ليست فقط استجابة *للمضمون الدسم< الذي حملته، بل ايضاً استجابة للشكل الفني الذي اصطنعه المؤلف خصيصاً لحمل هذا المضمون.
وهكذا سار باكثير في مسرحية *فاوست الجديد< على منهجه في التعبير عن فكرة إسلامية بشكل غير مباشر من خلال التعامل مع الاسطورة البعيدة عن العروبة نسباً والإسلام عقيدة على نحو ما فعل في *اخناتون ونفرتيتي< و*مأساة أوديب< ورسم شخصية فاوست الجديد في اطار الآية الكريمة التي صدر بها مسرحيته :*إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور< (فاطر 28) دون إخلال باجوائها التاريخية وبنية هيكلها الأساسية، فنجده يترك *فاوست الجديد< في بيئته الأوروبية المسيحية، ويحافظ على الخطوط الرئيسية في البناء الفني لفاوست جوته ولم يحدث من التغيير والحذف إلا ما يخدم تحقيق أهداف المضمون الذي يريد أن يصبه في وعائها الجديد.
وخلص د. محمد أبو بكر حميد في نهاية مقدمته لمسرحية باكثير *فاوست الجديد< إلى أن باكثير وجه في البيئة الاساسية لفاوست جوته ما يتفق مع الفكرة الاسلامية للعلاقة بين الله والشيطان وبين الانسان والشيطان واثر ذلك على الصلة المتينة التي يحب ان تقوم بين الانسان وربه، يعبده وحده لا يشرك به شيئاً وهو ما اكتشفه فاوست باكثير في آخر المسرحية.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved