أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 19th October,2001 العدد:10613الطبعةالاولـي الجمعة 3 ,شعبان 1422

شرفات

شخصيات قلقة
ميشيل باكونين (18141876م) حياة عاطفية وافكار مضطربة
منذ الصغر كان ميشيل باكونين طفلا مشاغبا، اينما حل يثير الفوضى، ولا يتورع عن تحريض اخوته الصغار كي يتحدوا سلطة الاب ويشقوا عصا الطاعة. انها بروفة صغيرة اعتاد عليها هذا الثائر الفوضوي، واعتاد الاب ان يتغاضى عنها لانها تكشف عن تمتع ابنه بالكبرياء والرغبة من الاستقلال والحرية.كما تنم عن مهارة مبكرة في ممارسة دور القيادة. ولذا عندما صار باكونين فتى يافعا لم يتردد الاب والحقه بمدرسة المدفعية ببطرسبورج
والحقيقة ان احساسه بالثورة كان يفوق بمراحل رغبته في ان يصبح ضابطا في الجيش الامبراطوري، وتأجج هذا الشعور عندما شاهد بعينيه اخماد الثورة البولندية سنة 1830م، فاثار في نفسه منظر بولندا المرعوبة الثائرة ضد الطغيان.
كان اخماد هذه الثورة مبرراً كافياً كي يتخلى عن حياة الجندية عازماً على دراسة فلسفة هيجل التي كانت رائجة في الصالونات والمنتديات الروسية آنذاك. ثم قرر ان يضرب عصفورين بحجر واحد كما يقال، فسافر إلى ألمانيا لدراسة هذه الفلسفة منبتها الأصلي، وفي نفس الوقت تنفس الصعداء لانه لم يعد من رعايا القيصر، بل اصبح حر نفسه.
وفي برلين وقع تحت تاثير الاراء الثائرة للهيجليين وان لم ترقه جميع آراء هيجل، او بمعنى آخر لم ترو ظمأه، فقرر أن يرحل من برلين إلى درسدن، وهناك تعرف على الاستاذ ارنولد ريج الذي يفسر هيجل تفسيرا يلائم الاتجاهات الحرة ويتماشى مع المبادئ الثورية لباكونين نفسه، الذي نشر مقالا في المجلة التي تصدرها ريج أعلن فيه أن «الرغبة في الهدم هي في الوقت نفسه رغبة خالقة». وكان هذا المبدأ سببا في تأليب الخصوم ضده، حيث صوروه كرجل ثائر هدام يريد العنف للعنف.
ليس صحيحا أن باكونين كان ميالاً إلى الشدة والعنف بطبيعته، بل الاصح أنه كان يرى في الثورات الدامية أنها غباء بشري وأنها دائما شر وكارثة كبيرة :«وهي ليست كذلك بالقياس إلى ضحاياها، وانما بالقياس الى سلامة الغرض الذي قامت من اجله». لكن يبدو أن قناعته بأهمية فكرة «الهدم» أثارت عداوة حكومة سكسونيا ضده فارتحل إلى سويسرا وتعرف هناك على عدد من الاشتراكيين الألمان.
وحين شعر بأن الحكومة السويسرية تضيق عليه الخناق وانها قد تلبي طلب الحكومة الروسية وتسلمه لها، اثر أن ينجو بنفسه مرتحلا الى باريس.
عاش في باريس فترة خصوبة فكرية قرابة اربعة اعوام تعرف فيها عن قرب على عدد من مفكري عصره اللامعين وعلى رأسهم ماركس وانجلز، ودخل في سجال طويل ومعركة ضارية معهما، وربما ظلت معقودة الغبار ولم تنته الا بوفاة باكونين.
عن علاقته الخطرة والمعقدة بماركس يقول باكونين:
«كان ماركس يسبقني كثيرا في طريق التقدم، كما ظل حتى اليوم ليس اسبق مني في سبيل التقدم فحسب وانما كذلك اغزر مني علما إلى درجة تبطل معها الموازنة هو يصفني باني مثالي عاطفي، وقد كان محقا في ذلك، وكنت انا اصفه بانه رجل مغرور ماكر خائن، وكنت كذلك محقا في ذلك».منذ تلك اللحظة اصبحت العلاقة بين الرجلين علاقة عدائية مسممة، وكان باكونين هو الرجل الاسوء حظا في قادم الايام. فعندما وقف في باريس عاصمة النور والحرية يخطب ويمتدح ثوة البولنديين، نفي من فرنسا بسبب خطبته المشئومة وبضغط من المفوضية الروسية التي لم تكتف بعقاب النفي، بل زودت خصومه بسلاح فتاك في محاربته حين اشاعت ان باكونين كان جاسوسا لروسيا وتم الاستغناء عنه لانه تجاوز حدوده.
من باريس إلى بروكسل ثم باريس مرة أخرى، وأخيرا استقر به المقام في ألمانيا، حيث ساهم في عقد مؤتمر كبير دعا فيه لسلافيين الى الانضمام الى غيرهم من الثائرين للقضاء على روسيا والنمسا وبروسيا. واغتنم ماركس فرصة المؤتمر ليهاجم خصمه اللدود مؤكدا ان السلافيين لا مستقبل لهم وبخاصة في الجهات التي يخضعون فيها لحكم النمسا والمانيا. أي أن العداء بينهما أخذ طابعا عنصريا مقيتا، هذا ينتصر لقوميته السلافية والآخر ينتصر لقوميته الالمانية.
ولم يتردد ماركس في اختلاق كذبة مؤسفة حين نشر في الجريدة التي يصدرها أن في حيازة الاديبة المعروفة جورج صاند مستندات تثبت أن باكونين يعمل جاسوسا للحكومة الروسية وأنه أحد المسؤولين عما وقع في بولندا من اعتقالات.بالطبع أنكر باكونين هذه التهمة الحقيرة، بل إن جورج صاند نفسها أرسلت تكذيبا للجريدة، مما أعاد شيئا من الهدوء أو الهدنة بين الخصمين اللدودين. آنذاك قامت في درسدن عام 1849 ثورة عارمة وتولى باكونين بنفسه الاشراف على الدفاع عن الثورة ومقاومة الجيوش الالمانية المهاجمة للمدينة. لكن سرعان ما استسلمت المدينة وقبض على باكونين وهو يحاول الفرار، ليبدأ عهداً حافلا مع السجون والمعتقلات!
في 14/1/1850 حكمت عليه ألمانيا بالاعدام، وبعد خمسة اشهر من الحبس في انتظار الاعدام، استبدل الحكم إلى الاشغال الشاقة وتم تسليمه إلى حكومة النمسا التي ارادت أن يكون لها فخر معاقبته ومرة اخرى حكمت عليه بالاعدام. ثم خفف الحكم للمرة الثانية إلى الاشغال الشاقة مع المعاملة القاسية والتعذيب البطيء. فقد وضعت الاغلال في يديه ورجليه وترك نهبا للجوع والمرض.
ولما شعرت حكومة النمسا أنها شفت غليلها منه وافقت على طلب الحكومة الثالثة «روسيا» وسلمته لها كي تأخذ بثأرها من هذا الثائر المجنون الذي لم يكتف بالتمرد على حكومة واحدة بل ثلاث!!
وفي معتقلات روسيا الجهنمية تساقطت اسنانه وهزل جسمه، ورغم العفو عن المساجين عقب موت القيصر نيقولا الأول الا أن القيصر الجديد الكسندر الثاني أبى أن يشمله العفو، رافضا التماسات أمه العجوز الفانية وقال لها :«اعلمي أيتها السيدة أن ابنك لن ينال حريته ما دام حيا!» ورغم هذا الموت البطيء لم تستطع احدى الحكومات الثلاث أن تزحزحه عن فكرة من أفكاره أو أن تجعله يحب فكرة «الحكومة» من الاساس.
وبعد ثماني سنوات من الاعتقال والعمل الشاق في مجاهل سيبريا نجح في الفرار إلى اليابان ومنها إلى أمريكا ثم إلى لندن.
مرة أخرى نال الثائر العنيد حريته وعاد إلى الترحال ما بين ايطاليا وسويسرا، وقد حاول في ايطاليا أن يؤسس جماعة «الاخوة الدولية» أو «اتحاد الثائرين الاشتراكيين» الذي يدعو إلى الغاء نظام الطبقات والمساواة بين الافراد رجالا ونساء وابطال الملكية الخاصة. وفي هذه الاثناء كان غريمه القديم كارس ماركس يؤسس في لندن اتحاد العمال الدولي وابى باكونين في بداية الامر أن ينضم اليه متوقعا انه سيخفق. لكنه حين ادرك اهميته ورأى كثرة الاعداد المنتمية اليه قرر ان ينضم إليه مع عدد كبير من اتباعه.
وفي المؤتمر الرابع للاتحاد عام 1869 انقسم الاعضاء الى تيارين متناقضين: الاول يؤيد ماركس فيما يقوله عن الغاء الملكية الخاصة وايجاد احزاب للعمال في الاقطار المختلفة واستعمال نظام ديمقراطي لانتخاب الاعضاء. والتيار الثاني يؤيد باكونين الرافض لفكرة الحكومة وللاستعانة باداة حكم نيابي. وتحول الاتحاد الى ساحة للتناحر والشتائم وتبادل الاتهامات ومن جديد اتهم الماركسيون باكنين بانه عميل لروسيا رغم أنها كانت أكثر الحكومات ضراوة في تعذيبه!ولما نشبت الحرب البروسية الفرنسية انضم باكونين إلى فرنسا نكاية في الالمان، وحين سقط نابليون الثالث دعا الفرنسيين إلى الثورة لكنه لم ينجح، واتهمته الحكومة الفرنسية بأنه عميل لبروسيا رغم كراهته الشديدة للالمان وعلى رأسهم ماركس وبسمارك. وبصعوبة بالغة استطاع الفرار إلى سويسرا وكان يعتقد أن تزايد قوة ألمانيا خطر على الحرية لا يستهان به «وهي نبوأة صدقت تاريخيا بعد رحيله اذ تسببت ألمانيا في حربين عالميتين».
وحين عقد المؤتمر الدولي لاتحاد العمال في لاهاي 1872م زعم انصاره أن اختيار المكان كان بغرض عدم تمكين باكونين من الحضور نظراً لان رأسه مطلوب في فرنسا وألمانيا على السواء، وبالفعل طرد باكونين من المؤتمر وهزم اتباعه. ومرة أخرى لم يتورع ماركس عن تزويد المؤتمر بالمستندات التي تؤيد طائفة من التهم بحق باكونين منها السرقة بالاكراه. وكانت هذه هي بداية النهاية لزعيم الفوضويين الذي اعتزل الحياة بعد أن نال منه المرض وبعد حياة عاصفة مضطربة مثل أفكاره تماما!!

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved