أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 15th November,2001 العدد:10640الطبعةالاولـي الخميس 30 ,شعبان 1422

الثقافية

معلقات.. وإن لم تُعَلَّقْ!
يوسف الذكير
لم يكتف الغزو الأوروبي للبلدان العربية والإسلامية في القرون الأخيرة، باحتلالها عسكرياً واستغلالها اقتصادياً واستعبادها سياسياً، بل لعل الأخطر من كل ذاك، كان محاولة تحطيم هويتها الثقافية الحاضرة، والموروثة بتحطيم الحاضر الثقافي. لم يقف عند محاولة الاحتلال الفرنسي طوال ما ناهز مائة وخمسين عاماً من استعماره للجزائر، تجريد شعبه العربي المسلم من هويته وثقافته، بفرنسة لغته، التي كان للسان القرآن العربي المبين الفضل الأعظم في التصدي لها وإفشالها، بل ولاتزال مستمرة من خلال تعميم ثقافة غربية لا تقف عند حد تغيير عادات المأكل والمشرب والملبس، أو تهشيم التقاليد الأسرية والاجتماعية المتوارثة، بل وتحطيم قيم ومفاهيم الشعوب العربية والإسلامية عامة من خلال تكريس قيم المجتمع الرأسمالي المادي، ببث ثقافة المصالح المادية وأسواق الأسهم، ومضاربات العملات والخامات، وجعل محور حياة شعوبها، لهاثاً لا ينقطع، جرياً وراء تحقيق الأرباح! لعل في ذلك بعض التفسير لما يتعرض له الإسلام من حملات إعلامية ظالمة، ترتدي حيناً حلة صراعات حضارية، وتارة بزة صدامات ثقافية، وتتعرى أحياناً أخرى في هجمات عسكرية همجية، لا تتوانى عن قتل حتى أطفال المسلمين، إن أبدوا أدنى رفض لتلك الهجمة الاستعمارية الجديدة..
أما تحطيم التراث الثقافي، فقد استهدف لغة القران العظم، اللغة العربية، التي إن أمكن التشكيك في أصولها وجذورها، فمن السهل التشكيك في كل ما تبرعم عن تلك الجذور من تراث ومعتقدات! اضطلعت كتائب المستشرقين بتلك المهمة، منذ ما يقرب قرناً ونصف قرن من الزمان. فقد ذكر المستشرق «بلاشير» في كتابه عن تاريخ الأدب العربي (*1) أن أول من تناول موضوع انتحال الشعر الجاهلي هو«نولدكه» سنة 1864م ولم يمض ثماني سنوات حتى كرر «أهلوارد»، موضوع الشكوك في صحة الشعر الجاهلي، في مقدمة كتابه المتضمن دواوين الشعراء الستة الجاهليين، امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة، والفحل، وعنتره، ثم تتابع المشككون طوال ثلاثين عاماً من أمثال موير وباسيه وبروكلمان وليال وهوار (*2)، لتبلغ الهجمة أعتى قممها، بانتقالها من مرحلة التشكيك إلى مرحلة الطعن، حين ذهب المستشرق الإنجليزي «مرجليوث» إلى رفض الشعر الجاهلي جملة، في مقاله «أصول الشعر العربي The Origins of Arabic Poetry» الذي نشره في مجلة بحثية مرموقة عام 1925م (*3).
مما يؤسف له أن تلقى كتابات الغربيين، حتى وإن طالت ثوابت الأمة العربية المسلمة آذاناً صاغية، وتجد ألسنة عربية ترددها بانبهار! فمثلما نجد في وقتنا الحاضر كتاباً عرباً ومسلمين، يرددون ما يكتبه الغربيون من مبررات ومسوغات لما يتعرض له الإسلام والمسلمون من هجمات، فقد وجدت تلك الكتابات في حينها من يرددها ويسوقها، ممن اعتبروا حينذاك «وما زالوا»، من أعمدة الأدب العربي، ومؤرخي التراث الإسلامي!
***
لم يكن «طه حسين» هو المتغرب الوحيد، إبان حقبة التشكيك، فقد حفلت تلك الفترة بالعديد من المنبهرين بالحضارة والثقافة الغربية، ممن يُعدون من كبار أعلام الفكر والأدب في ذلك الحين. فإن استثني منهم المسيحيون من أمثال شبلي شميل وفرح أنطوان وسلامة موسى، ففي المسلمين عدد لا يقل عنهم، بل ويزيد لعل من أشهرهم أستاذه أحمد لطفي السيد ومنصور فهمي، وإسماعيل فهمي وأحمد أمين. لكن (طه حسين) فاقهم جميعاً صيتاً وشهره، في أعقاب نشر كتابه الأشهر (في الشعر الجاهلي)، الذي عاد وسماه (في الأدب الجاهلي) بعدما أثار ما أثار من ضجة عاصفة، ما برح غبارها يلوث صفو سمائه الأدبية منذ ذلك الحين.
يدرك كل من طالع وتمعن وقارن بين ما كتبه المستشرقون وما ردده من بعدهم الكتاب العرب المنبهرون، أن كتاباتهم لم تكن سوى صدى لصوت أولئك المشككين، فكتاب (طه حسين) في حقيقته، لم يكن سوى أثر أكثر تفصيلاً، وأقل إقناعاً بما جاء في مقال (مرجليوث) من مضمون. فرغم أنه يقول بأنه سينتهج المنهج «الديكارتي» القائم على التجرد من كل موقف مسبق (*4)، إلا أن القارئ لا يلبث وأن يدرك خروجه عن ذلك المنهج، فقد تابع حجج ومنهج «مرجليوث» بخطى تكاد تتطابق مع خطاه، تطابق الحافر على الحافر. شكك مثلما فعل (مرجليوث) بأن لغة القرآن الكريم، ليست لغة العرب، مدعياً مثله أنها لغة قريش لا غير!.. وأنكر عراقة الشعر العربي الأصيل (وعلى رأسه المعلقات)، لغة ومفردات وانتساباً، إنكاراً لا يشكك بتراجم مبدعيها فحسب، بل وصل إلى حد نفى فيه وجود شاعر يدعى امرأ القيس (*5)!.
مما لا شك فيه أن حماسه الجارف لذلك الترديد، مرده شدة انبهار (طه حسين) وتعلقه بالثقافة الفرنسية لدرجة مهينة، لا يفصح عنها قوله : «أعشق في باريس مكاناً أعتقد أنه أقدس مكان في العالم الحديث.. وهو الحي اللاتيني» (*6) فحسب، بل ودعوته إلى اقتلاع مصر من بيئتها العربية وتراثها الإسلامي وإلقائها في خضم المتوسط وصولاً إلى شواطئ أوروبا، ناسياً أو متناسياً أن موانئها لم يبحر منها سوى أساطيل غزو إغريقية ورومانية وإفرنجية وسكسونية، استعبدت مصر، ناهبة خيراتها، مستبيحة حرماتها سارقة لآثارها، ناكرة لحضارتها التليدة..!
أما المؤرخون الإسلاميون، فقد يكون من أبرز المتأثرين منهم بالثقافة الأوروبية وادعاءات المستشرقين هو أحمد أمين فرغم جهده البارز في إنجاز مؤلفه الفذ « فجر وضحى وظهر الإسلام»، إلا أن عليه مآخذ، لا تُخفي تأثره بالفلسفة اليونانية التي أفرد لها فصلاً (*7)، أو سيره خلف خطى المستشرقين في إزدرائه للشعر العربي الأصيل، حينما وصفه بقوله إنه: «ليس متنوع الموضوعات ولا غزير المعاني، متكرر التشابيه والاستعارات، قليل الابتكار» (*8) وكأن روائع تشابيه امرئ القيس في وصفه لحصانه المكر المفر المقبل المدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من عل، أو وحشة ليله بأمواج بحر مُرخٍ سدوله، أو كوحش كاسر يردف أعجازه وينوء بكلكله، أو وصفه بجبل ثبير وسط السيول الغامرة لسفوحه، وكأنه كبير أناس في بجاد مزمل.. تشابيه متكررة: أو أن حكم زهير ولبيد، ونبل وشجاعة عنتره، ومفاخر ابن كلثوم، وتهتك طرفة، ليست مواضيع متنوعة، ولا غزيرة المعاني والاستعارات المبتكرة!
فإن كان من المعيب على باحث متبحر في التاريخ الإسلامي، كأحمد أمين استهانته بكنوز التراث العربي الموروث، ففي تناقض (مرجليوث)، حينما اعترف بوجود الشعر الجاهلي، لورود ذكر الشعراء في القرآن الكريم، وإقرار (طه حسين) بصحة انتساب القصيدتين الطويلتين: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» و «ألا انعم صباحاً أيها الطلل البالي» (*9) لامرئ القيس، ما يفضح مدى تهافت وهشاشة حجج المستشرقين، وأتباعهم من العرب والمسلمين، دون أن يعني ذلك مطلقاً أن كل ما جاء في المعلقات من أبيات، أو حتى بعض ما جاء في أبياتها من كلمات ومفردات مُنزّه عن الانتحال، بل وحتى إطلاق صفة «المعلقات» على القصائد الطوال، ما كان سوى مبالغة وخيال!
***
الانتحال وصحة تعليق «المعلقات»، ما كانا أبداً من اكتشاف المستشرقين، فقد تنبه لها الأدباء العرب والمؤرخون الثقات، قديماً وحديثاً وأشبعوها بحثاً وتمحيصاً.
فالمفضل الضبيّ، كان بالمرصاد لأول من جمعها «حماد الراوية» لما عرف عنه من وضع للشعر وانتحال، مثلما كان الأصمعي فاضحاً لكل ما انتحل «خلف الأحمر» من شعر لمعاصريه أو للأقدمين.
وإن كان ابن سلام الجمحي، أول وأشهر من بحث قضية الانتحال في كتابه «طبقات الشعراء» منذ القرن الثالث الهجري، فقد يكون مصطفى صادق الرافعي أول من فتح باب البحث في الانتحال من الأدباء والمؤرخين المعاصرين، في كتابه «تاريخ آداب العرب» عام 1911م، دونما تقليل لأبحاث مؤرخين ثقات وأساتذة عظام من أمثال فواد إفرام البستاني «الشعر الجاهلي» عام 1927م، وناصر الدين الأسد في «مصادر الشعر الجاهلي» عام 1956م، وشوقي ضيف في «العصر الجاهلي» عام 1960م، ويحيى الجبوري «الشعر الجاهلي» عام 1972م على سبيل المثال لا الحصر. ولكن شتان بين هؤلاء الثقات المنصفين، وأولئك المتغربين من أمثال «طه حسين»، الذي لم يتوان، إمعاناً منه في نصرة المستشرقين، عن اختلاق مقارنة متهافته، مثلما فعل في قوله: إن قصة امرئ القيس، ما هي سوى قصة عبدالرحمن الأشعث (*10)، التي بلغت من التهالك ما جعلها محل انتقاد، وتندر وتهكم كبار المؤرخين!
أما صحة خبر تعليق القصائد الطوال على الكعبة المشرفة، التي منحها دون غيرها تلك الصفة، فقد كانت هي الأخرى، محور اختلاف ما بين المؤرخين المسلمين وما تزال!
ففيما كان ابن الكلبي (المتوفى عام 204ه)، هو أقدم من أشار إلى التعليق صراحة، وتبعه في ذلك أبو زيد القرشي في مؤلفه (جمهرة أشعار العرب) حين قسم 49 قصيدة إلى سبعة أقسام، يضم كل قسم منها سبع قصائد فأطلق على كل باب اسماً مثل المذهبات، والمجمهرات، والمنتقيات، فجاءت القصائد السبع الطوال تحت مسمى (المعلقات) ثم تبعه في ذلك رواة مشهورد لهم كابن عبد ربه الأندلسي (ت 327ه)، وابن رشيق القيرواني (ت 463ه) وابن خلدون (ت 808 ه)، فيما أهمل تلك التسمية أدباء آخرون لا يقلون عنهم شهرة ورسوخاً كالجاحظ (ت 255) وابن سلام (ت 232 ه) وابن قتيبة (ت 276ه)، والأصفهاني (356ه). ورفض طرف ثالث تلك التسمية صراحة، كان من أبرزهم أبو جعفر النحاس (ت 337 ه) وياقوت الحموي (ت 626ه).
لذا فلا فضل ولا سبق للمستشرقين في إثبات أو إنكار صحة تعليق المعلقات، ولكن مهما اختلفت مواقف الأقدمين أو حتى المعاصرين، كالموقف المحايد المتردد للدكتور يحيى الجبوري (*11)، أو الموقف الرافض لصحة خبر تعليقها، للدكتور شوقي ضيف (*12)، فإن تلك القصائد ستبقى معلقات في قلوب ووجدان أجيال تلو أجيال من ملايين أقحاح العرب والمستعربين العاشقين للآلئ ينابيع لسان القرآن العظيم، ولن يضيرها أصوات مستشرقين أو صدى متغربين، مثلما لم يضرها طوال ستة عشر قرناً مضت، تهجم الشعوبيين ولا هجمات التتار والصليبيين.
(*1) تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي تأليف المستشرق بلاشير ترجمة: إبراهيم كيلاني : ص.ص (176 193).
(*2) الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه: الفصل الأول ص (160) تأليف: د. يحيى الجبوري الطبعة الثامنة مؤسسة الرسالة 1997م.
(*3) مجلة : الجمعية الملكية الآسيوية عدد يوليو عام 1925م.
(*4) في الأدب الجاهلي: الكتاب الثاني الجزء الثاني ص (67)
تأليف: د. طه حسين الطبعة السادسة عشرة دار المعارف (بدون تاريخ).
(*5) المصدر أعلاه: الكتاب الرابع الجزء الثالث ص (196).
(*6) طه حسين رجل فكر وعصر: القسم الرابع الفصل الثالث (تغريبة طه حسين) تأليف : أحمد علبي الطبعة الأولى دار الآداب عام 1985 ص (459).
(*7) فجر الإسلام: الباب الرابع الفصل الثاني ص (128).
تأليف: أحمد أمين الطبعة الرابعة عشرة مكتبة النهضة عام 1986م.
(*8) المصدر أعلاه : الفصل الخامس ص (58).
(*9) في الأدب الجاهلي: الكتاب الرابع ص (202).
(كما في أعلاه).
(*10) المصدر أعلاه: الكتاب الرابع ص (198).
(*11) الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه: الباب الثاني فصل (المعلقات) ص (183) (كما في 2 أعلاه).
(*12) تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي: الفصل الخامس ص (176).
تأليف: د. شوقي ضيف الطبعة الثانية والعشرون دار المعارف (بدون تاريخ).

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved