أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 15th November,2001 العدد:10640الطبعةالاولـي الخميس 30 ,شعبان 1422

الاقتصادية

خيارات التنمية الإنسانية الشاملة
د. فيصل بن صفوق البشير
وجدت المملكة العربية السعودية نفسها في مطلع التسعينات الهجرية «السبعينات الميلادية» في وضع تحسدها عليه أكثر الدول في العالم. ذلك الوضع الذي لم تكن قد قابلته المملكة من قبل في تاريخها. ونتج عنه ان ليس لدى المملكة قيادة وشعباً خبرة في مواجهة مثل ذلك الوضع. لقد توفر المال بغزارة وإلى درجة من الكفاية وبمدة قصيرة جداً إذا قيست بعمر الدول «أظن أنني لا أخطئ اقتصادياً إن قلت أنه توفر فجأة». وكان يقابل توفر المال من ناحية ثانية، حاجة البلاد ـ تقريباً ـ لكل شيء من أجل التنمية.
في تلك الظروف المشحونة بالأمل والترقب والممتلئة بطلبات ورغبات مجتمع يتطلع إلى تنمية ترفع من مستواه المعيشي بالذات لتقوده إلى مستقبل ارغد بدأت قيادة المملكة تسأل نفسها. ماهو الطريق الاسلم والأسرع لاختياره من أجل تلبية متطلبات التنمية والتي ستقود «بعون الله» في النهاية إلى رفاهية الوطن والمواطن. إذ أن القيادة اتخذت القرار الحاسم ولم تتلكأ أبداً بالجهر بأن فرصة توفر المال يجب أن لا تضيع وأنها يجب أن توظف في البلاد من أجل خيرنا جميعاً. ومن أجل الاجابة على ذلك السؤال«الطريق الاسلم والأسرع» بدأت القيادة تتحسس طريقها من خلال تجارب دول سبقتنا في تنمية بلادها. وكان الأمل أن تجد السعودية خبرة أو خبرات بعض الدول والتي كنا نطمح في نسخها كاملاً ان أمكن لتطبيقها لتنمية المملكة.
كان أمامنا نظريتان رئيسيتان للتنمية. أولهما النظرية التي ارتبط اسم التخطيط بها وخاصة المركزي منه على مستوى الدولة ألا وهي النظرية الاشتراكية والثانية هي نظرية الرأسمالية المستمدة منطقيتها من تفاعل عوامل السوق الحر في اقتصاد تهيمن عليه الملكية الفردية. ووجدنا أنفسنا في وضع حرج تجاه تلك النظريتان لأن وضع المملكة الاقتصادي كان خليطاً من الكثير من صفات النظريتين وكذلك له خصوصياته.
لقد كان الاقتصاد السعودي ولا يزال اقتصاداً يعتمد على آليات السوق الحر غير أنه وفي نفس الوقت تمتلك الدولة «أي القطاع العام» اهم عنصر انتاج مادي في البلاد والذي منه تستمد الدولة كل وارداتها تقريباً آنذاك.
تلك الواردات التي عادة توظفها الدولة لوسائل مباشرة من أجل التنمية مثل الاستثمار بجميع أنواعه وكذلك الصرف على كل ما يحتاجه المجتمع تقريباً. أي أن القطاع الحكومي أو العام كان مهماً بطريقة مباشرة وغير مباشرة، إن لم أقل أنه المهيمن بصورة مطلقة من خلال قدرته المالية الادارية على دفع عجلة التنمية في البلاد وبالسرعة القصوى المرغوبة والمسلحة في آن واحد. وبدأنا نتساءل ماهو الخيار الأمثل:
الخيار الأول:
وهو خيار بناء التجهيزات الأساسية القادرة على خدمة التنمية والتي بدأت ملامحها تظهر للعيان وهي أنها ستكون تنمية كبيرة ذات متطلبات كثيرة نظراً لتوفر الرغبة والمال والحاجة. وكان هذا الخيار يقوم على التأني بالابتعاد قدر المستطاع، عن الاستثمار في القطاعات الإنتاجية البحثية والتركيز على الاستثمار في بناء الطرق والاتصالات والمدارس والمستشفيات والمواني والمساكن وغيرها. تلك التجهيزات التي تسمى عادة بالتجيزات الأساسية الاجتماعية socialpra structure وكان هذا الخيار يعني لا بل يلح على استثمار الأموال الفائضة عن حاجة استثمار التجهيزات الأساسية والمصروفات التشغيلية في أماكن عدة من العالم إلى حين تهيئة الاقتصاد السعودي لتقبل تلك الاستثمارات التي يحتاجها من أجل خلق قاعدة اقتصادية حديثة ذات كفاءة عالية من الانتاج. هو خيار إذن يتطلب في المرحلة الأولى بناء التجهيزات الأساسية وفي المرحلة الثانية بناء قدرة الاقتصاد وتوظيف الأموال المتاحة بصورة سليمة.
لقد كان هذا الخيار منطقياً خاصة وأن أكثر تجارب دول العالم تشير إلى أنه الطريق الأسلم من جميع النواحي وخاصة الاجتماعية. لكن من كان في المملكة يستطيع أن يصبر إلى أن تكتمل التجهيزات الأساسية ليبدأ بالاستثمار في القطاعات الانتاجية؟ وهو يرى أمام عينيه فرصة سانحة، قد لا تتكرر أبداً! إذن كان لابد من البحث عن خيار آخر.
الخيار الثاني:
والذي سأسمية بالخيار الاقتصادي البحت. وكان يقوم على انتقاء بعض القطاعات الاقتصادية ذات النشاطات الإنتاجية المباشرة مثل الصناعة وإعداد برامج صناعية لإنشاء القاعدة الاقتصادية الحديثة المطلوبة. وكان هذا الخيار يتطلب إنشاء التجهيزات الأساسية التي تحتاج لها البرامج الصناعية المنتقاة بالسرعة القصوى وترك إلى حد ما الاستثمار في التجهيزات الأساسية الاخرى في البلاد على مستوى مقبول محكوماً بنسبة التضخم في البلاد بالذات وكذلك قدرة الاقتصاد على توظيف الموارد المتاحة بكل كفاءة. وكان هذا الخيار محدوداً إذ أنه سيحتاج لوقت طويل من أجل انتقاء البرامج الصناعية والتخطيط لها ومن ثم تنفيذها. أي أن المردود الايجابي لهذا الخيار لا يرى بالسرعة المطلوبة وخاصة أن عيون الناس من داخل وخارج المملكة كانت تراقب كيف ستتفاعل قيادة المملكة وشعبها مع التنمية في تلك الفترة ناهيك عن أن المجتمع السعودي -إن صح التعبير- كان يلح بشدة على تلبية رغباته فوراً! ولم لا؟ والمال قد توفر إلى درجة أن الكثير ظن بأن توفره يشتري الخبرة وحتى الزمن!. وهذا يعني أن لا عذر للدولة خاصة وأن قيادتها قالت دائماً بأنها تسعى لتوظيف كل الوسائل المتاحة بالسرعة القصوى من أجل بناء التنمية الشاملة. وهذا لاشك يعني أن أكثر الناس لم تكن في تلك الحالة الفكرية لتقبل الحجج الاقتصادية والمنطقية من ناحية نسبة التضخم بالذات وكفاءة توظيف عوامل الانتاج.«من النخبة: لماذا أنت حساس من ناحية مستوى التضخم ودولة مثل البرازيل عملاق جديد نمى بسرعة في ظل نسبة تضخم عالية؟».
وحقاً ان صاحب الحاجة لا يلام ولا يقبل الانتظار ومرة ثانية استمر البحث عن خيار آخر. وفي هذه الاثناء برز احتمال وقد اسميه خياراً مجازاً وسأنعته بالخيار اللئيم وقصير النظر وهدفي من ذكره هو للتاريخ فقط. وكان هذا الخيار يقوم على: لماذا لا تركز المملكة على إنتاج وتصدير البترول الخام فقط وتترك عنها التفكير في بناء مصانع البتروكيماويات وغيرها. إذ أن العائد من بيع البترول آنذاك يفوق كل العائدات المتوقعة من بناء المصانع! لقد نسي مؤيدو هذا الخيار من العقول العالمية الشهيرة ان هدف التنمية في المملكة لم يكن جمع المال بل إنشاء القواعد الانتاجية لتكون كذلك مختبرات لتدريب الانسان السعودي ليكون عاملاً منتجاً.. إذ أن هدف التنمية هو خلق الغنى الدائم المستمر، بعد الله، ولا يأتي هذا إلا من خلال تعليم الانسان السعودي وإعداده جيداً.
واستمر البحث لايجاد الوسائل من أجل التنمية والتي تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المملكة كمجتمع وكاقتصاد واهتدت إلى ما اسميه بالخيار الأخير وهو خيار التنمية الانسانية الشاملة.
وهو يقوم على الحجة التالية: بما أننا نحتاج لكل شيء فدعنا نعمل ونستثمر في جميع القطاعات مع الايمان المطلق بأننا سنواجه مصاعب ومشاكل ومن يعمل سيخطئ ولا كمال إلا لوجه الله. وهذا الخيار منطقياً يجمع بين الخيار الأول والثاني ونتج عن اختياره تلك الاستثمارات الهائلة التي افرزت هذه التنمية الخيرة في مدة قصيرة نسبة لعمر تنمية الأمم ولقد وفق هذا الخيار بين رغبات من يبحث عن الرضى فوراً وذاك الذي كان يتطلع إلى بناء قاعدة اقتصادية منتجة من المصانع، والمزارع، والخدمات وغيرها.
لقد كان هنا الخيار مكلفاً جداً من الناحية المادية ـ لكن برره الكثير من أمثالي حين نتذكر ان نسبة التضخم العالمي كانت عالية وأي مال سيستثمر في الخارج سيفقد الكثير من قوته الشرائية بنسبة قد تتجاوز زيادة تكلفة المشاريع نظراً للاستثمار فيها في تلك الفترة والتي لم يكن الاقتصاد السعودي في وضع يسمح له دائماً من توظيف عوامل الانتاج بكفاءة عالية نظراً لبدائية قاعدته الانتاجية.
لقد كان هذا الخيار مكلفاً معنوياً كذلك. لكن والحمد لله لمدة قصيرة حين ضج الناس من كثرة المصاعب التي واجهت تحقيق رغباتهم بالسرعة المطلوبة حتى وصل الأمر إلى التشكيك في فائدة التنمية ككل. وهذا ما حدى بأحد كتاب المملكة ـ رحمه الله ـ بأن يتساءل بصوت مسموع جداً ومقروء في نفس الوقت. هل هي تنمية أم تعرية؟!.
وفي ظل تلك الظروف القاسية صممت القيادة المضي قدماً في تنفيذ هذا الخيار حتى بدأت تحل أكثر المصاعب في نهاية التسعينات الهجرية نظراً للزيادة الكبيرة في عرض المواد والخدمات في الأسواق. ومن ضمن هذا الخيار كان الفهد المفدى قد اختار وأصر على تنفيذ إنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع لتكون الهيئة المسؤولة عن تنفيذ وإدارة كل التجهيزات المطلوبة لتلك المشاريع البتروكيماوية وغيرها والتي كانت في دور التخطيط ومن أهمها مشاريع سابك.
«ما أحوجنا الآن لمثل هذه الهيئة لنجابه بها بعض مصاعبنا مثل مشاكل المياه، والصحة، والتعليم.. وغيرها». وهنا اسمحوا لي أن أقول باختصار لماذا نجحت سابك وخاصة أننا الآن بدأنا نحاسب انفسنا بحثاً عن زيادة كفاءة العطاء من مؤسساتنا الحكومية بالذات. لقد نجحت سابك للأسباب الرئيسية التالية:
1ـ لقد أنشئت سابك كمؤسسة حكومية ذات رأس مال مستقل عن ميزانية الدولة. وسمح نظامها لها ان تدير أمورها كشركة تجارية، بالرغم من أنها مملوكة بالكامل انذاك من قبل الدولة. وحقاً لقد كان مجلس إدارتها هو السلطة المهيمنة كما يتطلبه نظام الشركات في السعودية. هذا النجاح يؤكد بأنه ليس من الضروري دائماً تخصيص ملكية المؤسسة الحكومية حتى تنجح تجارياً كما ينادي البعض في هذه الأيام.
2ـ لم يغر توفر المال الحكومة ويقودها إلى الملكية الكاملة لمشاريع سابك بل فضلت المشاركة مع أهل الخبرة في العالم. وفي نظري أن هذا القرار كان قراراً مصيرياً بالرغم من كثرة الأصوات الناقدة له من خارج البلاد وداخلها - ألم أقل أن بعض الناس انتشى لدرجة عالية وظن أن المال يستطيع شراء حتى الخبرة والزمن بمدة قصيرة!
لكن نسوا أن الشريك الخبير يهتم بجدوى ونجاح المشروع اكثر من الخبير المستأجر!
3 ـ إرسال الشباب السعودي للتدريب في منشآت مشابهة لمشاريع سابك وكان بعضها من منشآت الشركات المماثلة، حتى أن بعض الشباب أتى مباشرة من مراكز تدريبية خارج المملكة ليدير مصانع سابك في الجبيل وينبع «والمثل الذي أذكره بكل شفافية هو قدوم الشباب السعودي من مصنع لاكسون في بانن روج في ولاية لويزيانا في الولايات المتحدة الأمريكية ليدير مباشرة مصنع شركة كيميا الغالية في الجبيل».
4 ـ لقد نجحت الهيئة الملكية للجبيل وينبع بتأدية واجبها ولقد انعكس هذا النجاح ليصبح كلقيم في سلسلة خطوط إنتاج مصانع سابك كلها.. وحقاً لقد كان النجاح الخير لكلا المؤسستين والذي انعكس بدوره على الاقتصاد السعودي ككل.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أحيي قائد مسيرة الخير خادم الحرمين الشريفين الملك فهد المفدى وأهنئه بالمناسبة العشرين لتوليه مقاليد الحكم والسهر على راحتنا. وأدعو له بالصحة والعافية ويشد عضده بأخيه ولي العهد الأمين الأمير عبدالله بن عبدالعزيز وأخيه النائب الثاني الأمير سلطان بن عبدالعزيز. وحقاً لقد كان قراره بإنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع وترؤسه المباشر لها بالذات قراراً مصيرياً سيخلده التاريخ بإذن الله إذ أنه ساهم مساهمة كبيرة بإنشاء ما يسمى بالتنمية الإنسانية الشاملة في مملكة الخير المملكة العربية السعودية.
* نص الكلمة التي ألقيت في ندوة التخطيط الاستراتيجي في مركز الأمير سلمان

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved