أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 16th November,2001 العدد:10641الطبعةالاولـي الجمعة 1 ,رمضان 1422

الثقافية

قصة قصيرة
حتى لا تروح الروح!
أحسست أنني استفقت من سبات طويل.
كعادة من يستيقظ حاولت دعك عيني، لكن يداي أبت الحركة.
أردت أن أنهض لكن أعضائي رفضت الاستجابة.
لم تكن الرؤيا واضحة لي تماما لكنها كانت كافية لأميز أن الذي يقف فوقي هو أخي مساعد بذقن مهمل ووجه شاحب، برفقة شخص آخر يبدو وجهه مألوفا لي لكنه لم أعرفه.
يدور بينهما حوار:
شلونه اليوم عساه أحسن.
مساعد: والله على حاله.
من يوم الحادث؟
مساعد: أي والله من يوم الحادث.
ااااه الحادث.
بدأت تتشكل لي صور متشابكة، ارتطام، دماء مسعفين، شظايا زجاج
عجزت أن انسج منها صورة متكاملة.
جلت بنظري أرجاء الغرفة بخلاف السرير الذي اضطجعه لا شيء آخر سوى أريكة حمراء تتسع لشخصين وطاولة تحمل تلفازا وأخرى أصغر تحمل دلال قهوة وأقداحاً بدا نصفها متسخاً والآخر مقلوب دلالة نظافتها، إضافة إلى كم من الأجهزة الطبية التي تحيط بي.
عدت لألتقط شيئا من الحوار:
مساعد: والبيبي شلونه؟
الحمد لله بأتم حال.
مساعد: وريم عساها طيبة؟
لا بخير الله يسلمك
أدركت حينها أن الذي أبصره ليس إلا زوج أختي ريم بشارب محلوق وقد استغنى عن نظارته المعهودة.
كم يبدو مضحكا بلا شارب، إذن فقد عاد من بعثته الدراسية بالخارج.
تذكرت أختي ريم وبطنها المنتفخ، أتراها قد أنجبت طفلا أم طفلة، كنت قد راهنت أمي على أنها ستنجب طفلاً.
أحسست برغبة ملحة في السؤال عنها، استجمعت قواي، شهقت بعمق، لكن لا فائدة لم استطع حتى تحريك شفتي.
أدركت الحقيقة المرة أني مسلوب من كامل قواي معدوم الحيلة.
انطبق جفناي حزنا علي اختفت الصورة خشيت ألا ترجع.
أفقت على صورة والدي، هممت أن أنهض لأقبل رأسه، ثم عدت لأتذكر حالتي من جديد.
كان والدي يتأمل فيّ بأسى شديد، لم ينطق، أمسك بذراعي ثم حركها بيأس، اجتهدت لأظهر ابتسامة تعيد الأمل لهذا المسكين لكني فشلت، وكنتيجة طبيعية للأحداث غادر والدي الغرفة متأثراً.كنت قد أحسست في فترة من فترات حياتي أن والدي لم يكن يحبني تراجعت عن هذه الفكرة كليا الآن انحنى علي عمي محمد الشقيق الأكبر لوالدي وعميد الأسرة كانت له ابتسامة عريضة لا تفارق محياه، كشف عن صدري العاري، وضع يده على موضع قلبي ثم علق:
لا لا أنشط مني ما شا الله.
كان كغيره يبحث عن رفع معنويات الحاضرين
الزوار كثر هذه الليلة، يحيطون بي من كل جانب لا أستطيع تمييزهم، أحس بجفاف في عيني، رؤوس متشابهة تعلوها شمغ قانية الحمار هكذا بدوا لي.
انه حمد لقد عرفته من ثوبه الشتوي الفريد الذي يرتديه كل سنة، يحنو علي يقبل جبيني، دمعة بلل وجنتي.
كم تبدون حمقى حين ترتسم تلك النظرة المشفقة على وجوهكم، وقت قصير فقط وسأعود لك يا حمد لنشكل معا ثنائي البلوت الذي لا يهزم.
وهذا سلطان زميلي في الجامعة، يبدو مرحا لا مباليا كعادته، جيد، فلست بحاجة للمزيد من المشفقين علي، تأملني وهو يبتسم وهمس في أذني:
ما شا الله من متى ذا اللحية.
وأطلق ضحكة مكتومة، ويبدو أنه كان ينتظر مني أن أدخل معه في سجال النكت كحال الأيام الخوالي، ما لبثت نظرة الأسى أن ارتسمت على وجهه هو أيضا كغيره، يبدو أن حالي مزرية جدا لتأثر في ميت القلب هذا.
اليوم أفقت على صوت مألوف، مألوف جدا، انه صوت رنين الهاتف، كان هذا الصوت يستفزني ويحركني من سكوني أو انشغالي، كنت أستمتع بالرد على المكالمات، كنت جديرا بلقب مأمور السنترال في المنزل لقد أطلقه علي والدي لكن يبدو أنني سأتنازل عن هذا اللقب لبعض الوقت أو ربما للأبد.
التقط مساعد السماعة:
مساعد: هلا عنودي.
مساعد: ايه أنا في المستشفى.
مساعد: لا ما نقدر نأخذك معنا، المستشفى ما يدخلون صغاراً.
مساعد: يقول: إذا عنودي تسمع الكلام خذوا لها حلاو.
مساعد: لا لا ما يقدر يكلمك هو نايم الحين.
مساعد: أقول لك نايم.
مساعد: انتي من اتصل لك؟
مساعد: ما أحد، طيب خلاص يله مع السلامة.
لا لا لا لست نائما، مساعد أرجوك أريد سماع صوتها، اريد سماعه وهي تنطق حرف الراء في اسمي، كم من العذوبة تنسكب من شفتيها حين تشدو به.
اقفل مساعد السماعة.
طبعاً فلم يسمعني سوى نفسي.
لم أكن استلطف من الطاقم الطبي المشرف على سوى ممرضة عجوز ذات ملامح شرق آسيوية كانت مؤمنة كل الإيمان بشفائي، كانت تخاطبني بعربية مكسرة.
أليوم كويس، بس واحد أسبوع بعدين خلاص.
كانوا يقلبونني عادة كجثة هامدة، بينما كانت هي تحركني بلطف وتستأذنني بأدب لتدليك أطرافي، وكانت تغمض عينيها ضاحكة عندما ترفع الغطاء عن جسدي العاري، كانت بصريح العبارة تعاملني كإنسان.
الليلة لا أثر للزوار البتة، أحس بأن الهدوء يخيم على أجواء المستشفى بأكمله، حتى مساعد الذي اعتاد على الجلوس بجانب سريري سحب كرسيه وتسمر أمام التلفاز، لم يقطع هذا الصمت سوى صوت معلق مباراة، يقرأ تشكيلة المنتخب السعودي.
يمثل منتخبنا في مباراة اليوم..
أدركت سبب شح الزوار الليلة فهم منشغلون بمتابعة المباراة ولهم كل العذر فلم أكن لأفوت مشاهدتها في الاستاد كيس الحب في يدي ومتأبطا علمي الأخضر لو كنت صحيحا معافى.
مجبرا لا بطل سأكتفي بسماع التعليق على المباراة دون الفرجة لأن مجال رؤياي للأسف لا يسمح بمشاهدة شاشة التلفاز.
قطع تفاعلي مع أحداث المباراة دخول ممرضة أوروبية تخاطب مساعد بلهجة حادة، تطالبه بخفض صوت التلفزيون لأنه يقلق راحة مرضى آخرين، وبما أن قدرة مساعد على فهم اللغة الإنجليزية كانت كقدرتي على الحركة فإنه لم ينصع لأوامرها، فاضطرت بنفسها لإخراس صوت التلفاز نهائيا.وبذلك تلاشى كل ما تبقى لي من أمل لمتابعة المباراة!!
كان صوت الأجهزة الرتيب يختلط مع صوت دقات ساعة الحائط مع صوت ساعة مساعد اليدوية الملقاة باهمال بجانبي مع صوت أنفاسي.
لتبعث في داخلي هذه الأصوات رغبة في الموت ومواجهة الأجل بسرعة.لكن بلا مكابرة مع مضي الوقت أصبحت هذه الأصوات سلوتي وأنيسي.
رائحة منظفات الأرضية أصبحت اريجي المفضل بعد أن كانت منفرا لي من زيارة المستشفيات.
نداء انتهاء الزيارة كان قمة المتعة بالنسبة لي.
اليوم ستعلنه ذات الصوت الحاد
وغدا ذو الصوت الرخيم، قبل أيام تغيب عن دوره، ربما لأنها قبلها بأيام كان مبحوح الصوت، لابد أنه مريض.
صرت أشطح بخيالي بعيدا، لدرجة أني تخيلت أني سأعاود المشي بل والركض.
حين أشفى لن أتكاسل عن صلاة الفجر مجددا.
حين أشفى سأجرب الغترة البيضاء فقد أفنيت عمري في ارتداء الشماغ.
حين أشفى سأكف عن المطالبة بغرفة خاصة في منزلنا العامر، فقد اكتفيت وحدة.
حين أشفى سأقود سيارتي بحذر شديد.
لا
حين أشفى لن أقود سيارة مجددا.
وحين أشفى سآكل «سليقا» من يد أمي مع سلطة حارة.
حين أشفى سأزور سور الصين.
وحين أشفى لن أفوت أي مباراة للمنتخب.
وسأتعلم الفرنسية
وسأركب خيلاً
حتى ذلك الحين سأواصل الأماني.
كنت إلى ماض قريب حريصاً كل الحرص على الاهتمام بهندامي وشكلي وحلاقة ذقني باستمرار والمداومة على زيارة المرآة.
لكن النظرة التي أراها في وجوه الزوار كانت توحي لي أنني قمة في البشاعة أخشى أن مئات الغرز والجروح الغائرة قد عاثت فيه فساداً.
اليوم استقبلت ضيفا من طراز جديد اليوم، تركي ابن اختي كان يرتدي شماغا بمثابة تذكرة المرور له من أمام أعين حراس الأمن في المستشفى.
كان هذا الصغير شديد التأثر بي ولا أبالغ أنني أثرت بشخصيته بوضوح، يشجع النادي الذي أشجع يحب السيارة التي أركب ينصت للكلام الذي أقول.
كان شديد التفاخر بي بين أقرانه وكان يستشهد بأفعالي وتصرفاتي ليعلل أي تصرف يقوم به ودائما ما يكرر:
«خالي يقول كذا».
حمله والده ليشاهدني عن كثب، وببراءة اعتدتها منه:
هلا خالي.
خالي.
خالي..
كف عن مناداتي وكأنما أدرك أن لا مجيب.
بدا حزينا جدا لمشهد ذاك الصرح الذي هوى، اغرورقت عيناه لكنه لم يبك، كان يعرف أنني سأنهره بشدة لو رأيته يفعل فعائل النساء، في غفلة من الحضور شاهدته يقرص يدي، مرة واثنتين وثلاثاً، لكن يبدو أني خيبت ظنه لأنه بالتأكيد كان ينتظر ردة فعل مغايرة تماما لسكوني المطبق.
بعد برهة عاد والده ليحمله ليلقي نظرة الوداع، كان لا يزال يصارع في أعماقه أنني أراه وأسمعه.
غادرا الغرفة وأغلقا الباب، ما لبث الباب أن فتح، تركي يركض باتجاه السرير ويتسلقه، اقترب مني وهمس في أذني:
خالي ترى المنتخب فاز والدعيع صد بلنتي ويوسف.. اجتثه والده وهو يصرخ، غادرا بانفعال.
لقد كان يقولها بسعادة متناهية وكأنما أشبع رغباته الداخلية.
تبدو لي هيئته معروفة جداً لقد رأيت صاحب هذا الجسم من قبل، أنا متأكد، إنه يأمرهم بإخلاء الغرفة، كان يعطيني ظهره حينها ولما أدار لي وجهه لم أستغرب لما ميزت جسمه عن باقي الأجسام فقد صليت خلفه مئات المرات، أنه أبو معاذ أمام مسجد الحي.
بدأ أبو معاذ ينفث في وجهي ويقرأ القرآن، آية تلو آية بدت الطمأنينة تملأُ قلبي، كنت أتمنى ألا يسكت.
مسح على أطرافي بماء استنتجت أنه ماء زمزم أو أي ماء مقروء فيه، وغادر الغرفة بعد أن قبلني وهو يدعو لي بالشفاء.
حالتي النفسية بدأت في التدهور شيئا فشيئاً لم ألحظ أي تحسن طرأ علي وكذا زواري فنظراتهم لي هي ذاتها أول نظرة رمقوني بها.
يقولون أن آخر الدواء الكي، مساعد يكثر اليوم الاتصال بالبيت، يصرخ تارة ويهمس تارة أخرى، كانت هذه هي طريقته في الاقناع، ويبدو أنه في طريقه لصنع قرار مهم.
شاهدت ثمار هذه الاتصالات حينما أقبلت أمي خلف عباءتها ونقابها المميز الذي يستحيل أن أخطئه، فلطالما ميزتها من بين مئات النساء الخارجات من حفل زفاف ومن بين الآلاف اللاتي يصلين خلف السديس.
إذن فمساعد أقنع أمي بعد جهد شاق بالتأكيد بالمجيء لزيارتي.
والدتي سيدة حساسة فهي لا تجرؤ على زيارة أي مريض خشية أن تنهار، فكيف إذا كان هذا المريض هو آخر عنقودها وحاله لا تسر عدوها.
رفعت أمي الغطاء عن وجهها وبدت تسكب الدموع، عيناها على وشك أن تجفا، لا شك أن بدت تبكي قبل هذا الوقت بكثير انهمر دمعها بكرم وصارت تهز رأسها يمنه ويسرة وهي تترحم على حالي.
قلت في نفسي إذا لم يحرك هذا المشهد فيني أي مشاعر فلن تتحرك أبداً.
كان لابد أن أظهر ردة فعل، دعيت ربي بصدق لم أعتده في نفسي، قطع لحظات الأسى هذه صرخة.
مساعد يصرخ: يمه دمعت عيونه يمه
يمه تراه يحس
يمه شوفي بدا يحس
عاد ليصرخ
سستر، سستر..
وكعادة أمي في السراء والضراء لم تنس ربها.
وبصوت أرهفه البكاء:
الله كريم الله كريم
زياد
www.sabborat.com

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved