أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 22nd November,2001 العدد:10647الطبعةالاولـي الخميس 7 ,رمضان 1422

الثقافية

«جروح الذاكرة» ... حكائية دالة تذهب للمعنى
عبدالحفيظ الشمري
«جروح الذاكرة» العمل الروائي الخامس بعد ثلاثية أطياف الأزقة المهجورة، وشرق الوادي للدكتور تركي الحمد والتي صدرت أواخر هذا العام 2001م .. واستهلها بومضة خطابية تجسد فكرة انسياق الراوي وراء همه الفكري الذي يقرأ به عوالم الماضي المتمثل في تلك الانثيالات الغامضة في الذات والتي نسميها أحياناً الماضي.. أو ما أسماه المؤلف في عنوانه الحاضن للثلاثية الأولى «أطياف الأزقة المهجورة».. فالراوي في هذه الرواية يستعيد تفاصيل سهاد المرأة.. وما ينوء به رأسها من أثقال الأفكار.. والخواطر الأنثوية، والبوح الوجداني اللاعج، ليصبح السياق في الاستهلال الأول للرواية اتكاء على مخيلة الذاكرة.
ولك ان هممت في قراءة «جروح الذاكرة» ان تستحضر مقولات «رولان بارت» في العشق.. لكن العاشق في سياق هذا العمل يعاني من سطوة الزمن وقسوة المحبوب.. وغياب الهدى.. وضياع الأحلام.. وتفتت الذاكرة التي تسجل حضورها الصاخب، وانثيالها المفرط.. ذلك الذي يجعلك كقارئ تنقاد ، وعبر ممراتها المتعرجة مع الراوي يداً بيد لتصل وبرغبة قوية إلى لحظة التنوير التي هجس لنا بها «بارت» عندما صور لنا العشق بأنه جزء من رسالة الألم... ذلك ما تذهب إليه الرواية في وصف «الغياب» ولحظات الماضي.
خمسون عاماً هي زمن حيرة المرأة «لطيفة» بطلة الرواية وزمن بحثها عن الذات.. ذلك الذي يصفه الراوي بأنه ومضة عابرة في كون فسيح لا يمكن لنا ان نتمثل بهذه الأحداث الا ونهيل عليها شيئاً من ابتسامة لا تخلو من فاجعة، أو دهشة لما آلت إليه الاحلام.. في ذلك الفضاء الزماني العابر الذي تكرر وعلى مدى خمسة عقود كاملة غير منقوصة.
لايمكن لنا أن نبتعد كثيراً عن أطراف «مقولات العشق» لدى الدكتور الحمد في ظل توحده مع ذلك الماضي«النجدي» المتمثل في استعادة تفاصيل مقولة«صالح» ل«لطيفة» حينما يصف لنا العلامة المميزة لأبناء نجد عن سائر الخلق في العالم.. تلك التي تتجسد في آثار«الكي» في مؤخرة عنق أحدهم «الرواية ص23».
* جروح الذاكرة.. الإغراق في المعنى
الرواية في إطارها العام تلخيص حواري دام طويلاً بين الرجل ممثلاً بصالح وبين المرأة بلطيفة.. ويمتزج هذا التلخيص بالعديد من الرؤى التي تتجاذبه ليصبح السياق محملاً على رغبة عريضة تكمن في اكتشاف ذاته من خلال الماضي المتلاشي في مجاهل التاريخ ومن خلال رؤية استشرافية للآتي.. وهذا ما جعل الروائي الحمد ينتهج اسلوب كشف المستور العابر، والأوهام المدفونة في أعماق النسيان، ليدفع شخوص عمله إلى استقصاء تلك المفردات والمعاني الموصلة إلى أعماق الفكرة التي تقوم أساساً على استنطاق مخزون الذاكرة.
فالمسير نحو المعنى عبر مسالك السرد في الرواية يأخذ شكل منعطفات ثلاثة على الأقل تتأكد في تشخيص الحالة العامة، وسبر اغوار الأحداث، والبحث أخيراً عن علاج مناسب لأمراض المجتمع المزمنة.. تلك التي تتلخص باضمامات حكائية تدعم السياق العام في السرد وتصل خيوط المعنى بعضها ببعض لتقوم في هذا الاتجاه رؤية واحدة تحدد هذه المنعطفات الثلاث وتؤطر أهمية كل عنصر منها تأطيراً فنياً يسترعي قدرة الكاتب على الابانة والافصاح.. والسرد الحكائي المتكئ على مخيلة الذاكرة.. كما في حكاية«لطيفة» في آخر المذهب المعنون بعبق العود«الرواية ص44».
* تواتر الحكاية.. شغف القول
تنفرج زاوية البوح، وتتسع لاحتمال جموح الحكايات.. بل ان الحكاية تلو الأخرى تلك التي يعدها الدكتور الحمد بمهارة وجرأة فائقة تترك بالقارئ أثرها الفاعل والمؤثر.. وتحقق للنص الروائي أبرز عناصره والمتمثلة في القارئ الذي يقبل على مثل هذه الأحداث والحكايات التي ترد على لسان الراوي.
فالراوي ورغم شغفه بالقول، وتوقه للبوح عما يعتلج في ذاته نجده وفي مواقف عديدة لا يتخلى عن ثقافته العالية، وفكره المستنير لنجده وفي انثيالات بوحه يسجل الموقف الفكري في محاولة منه لإقامة توازن معرفي بين المقولات المستندة على الحكاية وبين الرؤية العقلية للأحداث.. تلك هي ثنائية بوح المجروح الذي يلهو بما بين يديه من حكايات دالة تذهب للمعنى وتؤسس بعده التنويري الخفي.
ومن تواتر الحكاية إلى شغف القول تبوح «لطيفة».. بل تهذي أحياناً من أهوال تأملها للحالة الاجتماعية التي تقتسمها مع زوجها «صالح».. هذا الهذيان غير الموارب هذيان العاقل الفرح بقرب خلاصه من منغصات تتجسد بالعقل ذاته، ليفر الراوي نحو الحكاية لشغف يسكنه في القول، ولثقة قد تكون مفرطة بما لدى«السر»، و«الخفاء» من قدرة على تتبع معطيات الدهشة لدى الانسان عندما ينصت إلى حكاية تروى، أو مقولة تعاد.. لكنها في رواية الدكتور الحمد لم تكن اي حكاية.. انما قنبلة اجتماعية من قبيل نقد المجتمع.
* سقام الثرثرة في زمن ضائع
يسوق الدكتور الحمد التبرير الفني لهذيان الراوي.. ذلك الذي لا ينفك عن وصف ما حوله وبدقة متناهية، لتجده في الجزء الأخير من الرواية«ربما في الزمن الضائع ص 265» يتحول وبإشارة واضحة إلى ان عوامل التنوير الأخيرة في العمل لن تأتي محملة على عنصر المفاجأة.. انما أسبغ الراوي من كرمه الكثير على هذه القصة الطويلة لرجل عصامي عاصر كل التحولات، وعصفت به الأنواء، وقلبته الليالي والأيام على جهات عدة.. وهاهو يموت في خاتمة ثرثرته.. في زمن ضائع من حياة جيل ينتظر هذا التحول، لعل الحياة رغم فواجعها تحطب في حبل ما يودونه من هؤلاء الذين عاصروا كل شيء.. ولاسيما «أهل الطفرة» كما هو معروف لدى جيل كامل.
الرواية اوصدت على بعض الحكايات أبواب الحدس بأقفال قوية وجاءت النهايات محملة على إجابات واقعية جداً.. تسجل جملة من الانتكاسات النفسية، والارتكاسات العقلية ليخرج القارئ لرواية«جروح الذاكرة» بإضمامة كبيرة وهائلة من الحكايات المتواترة وكأنها جداول صغيرة يتداعى كل واحد على الآخر ليجري في النهاية ذلك الوادي الكبير.. لكنه الوادي الهائل من عذابات النفس الانسانية وجروح الذاكرة الحية واليقظة.
فالثالوث المهم قد يكون ذلك الرجل وتلك الأنثى وفضاء حكائياً حاضناً لهذه الدلالات المتواترة عن حقبة من زمن«الطفرة» وإفرازاتها المذهلة.. تلك التي لم تكن في الحياة المادية.. انما توغلت حتى أصبحت طفرةً في المفاهيم والقيم الاجتماعية.. وربما نشير إلى أن سهاد الأنثى، وخواطر الرجل، وآهات الذات و«جروح الذاكرة»، وسقام الثرثرة في هذا الزمن الضائع هو ما جعل هذا العمل يأخذ شكله المناسب في ذات القارئ.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved