أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 2nd December,2001 العدد:10657الطبعةالاولـي الأحد 17 ,رمضان 1422

محليــات

لما هو آت
الإنسان بين العزلة والاندماج
د. خيرية إبراهيم السقاف
قدَّر الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يكون «اجتماعياً» بطبعه، يُقبِل على الآخر، ويتفاعل معه، ويشاركه الحياة في مواقفها المختلفة، وأدوارها العديدة، ولذا رأت عامة الناس أن الجنَّة التي لا بشر فيها لا حياة فيها، كناية عن الأرض الخضراء المثمرة، والحدائق الغناء البهيجة، فجاء في أمثلتهم: «جنة بلا ناس ما تنداس» ولهذه الغريزة الفطرية أسباب عديدة منها أنها شرط من شروط تحقيق مضامين مفهوم «التعارف» بين الناس شعوباً وقبائل كما ورد في الآية الكريمة: «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...» 13 الحجرات .
لذا فإنَّ «الاجتماعية» في طبيعة الإنسان هي فطرة في قوامها الأول...، ومنها فإنَّ الإنسان لا يميل إلى ضدها «العزلة» ولا يركن إليها في تعامله ومعايشته الواقعية إلا بأسباب...، فالعزلة طارىء، بينما الاجتماعية غريزة.
ولأنَّ العزلة خارجة عن إطارها فإنَّ لها أسبابها التي دعمها العلم الحديث وكذلك حفل القديم من قبل، إذ لم تُحبَّذ «الوحدة» أو الركون إليها لما ثبت لها من أضرار نفسية في الإنسان.
فالإنسان جُبِل على الاجتماع بالآخر، والاستئناس به، غير أن الإنسان والآخر ليسا متفقين أو ليسا سواء في القدرات النفسية، ولا العقلية، وكذلك ليسا سواء في الميول والطباع...، لذا فهناك من لا يستطيع أن يمارس حياته في وحدة، بينما آخر لا يجد نفسه إلا حين يتفرد بها...، من هنا تتباين تبعات «الوحدة» وآثارها الانعزالية في الإنسان من واحد لآخر. كما تتراوح بين السلب والإيجاب بناء على طبيعة كلِّ فرد، ونصيبه من معايير القدرات والميول والطباع...، فبينما يكون هناك من الناس من يستطيع تسخير «وحدته» في الإنتاج النافع، والابتكار المفيد، والاختراع المضيف، والإبداع المنتج، يكون هناك من يخضع لآثار ماحقة للوحدة في كافة مقوماته النفسية والذهنية إذ يصل أمره معها إلى أن يتوقف عن قدرة التفكير، فتنحسر أفكاره، وتذوي نفسه، وتطمس روحه، لذا فكما أنَّ للوحدة العازلة من دافعية لفئة من الناس ينتجون فيها فيؤيدونها، هناك من لا يؤيدها لعدم دافعيتها لهم إلاَّ للفناء والانزواء.
غير أنَّه ليس كل وحدة فساداً ومحقاً، ولا كل تجمع فاعلاً في حياة وهمة...
فالعرب كانت ترى أنَّ عزلة الرجل في وحدته في بيته أستر له، والكتمان في سلوك الإسلام لأمر الإنسان يستعين عليه به نوع من الوحدة المفيدة، فإنَّ في الاختلاط الدائم بالناس ما يسيء في كثير أقله أن لا يكون للإنسان خصوصية تمنحه فسحة اللقاء بالذات. وليس أضبط من وسطية الأمر بين الوحدة والتجمع، بين أن تكون انعزالياً أو اجتماعياً. تقديراً لسمات البشرية فيك تلك التي تتطلب منك حماية أمورك الخاصة كي تقوى على التعامل معها بما تحتاجه إما بالإنماء أو بالإفناء، فما فيك من جيِّد تعززه عملياً، وما كان من سيىء تبدده فعلياً، ولا يتحقق ذلك لك دون أن تكون مهيمناً على وقتك، وكيفية تعبئته أو تفريغه، كيف شئت، ومتى شئت. وذلك هو الضابط الهام في علاقة الإنسان بنفسه وبما منحه في شأنها خالقه تعالى حين ركَّبه فأحسن تركيبه. والأدلة على الوسطية في أمر الاندماج أو الانعزال ما حثت عليه العرب حين قالت في أمثالها: «زر غباً تزدد حبا»، وحين وجَّه القرآن الكريم إلى عزلة وضع الثياب لثلاث فترات لا يُسمَح فيها حتى للأبناء باقتحامها على والديهم. «18 النور».
كما أنَّ من الثابت أنَّ جميع الأنبياء عليهم السلام، وعلى رسولنا محمد الصلاة والتسليم قد جرَّبوا عزلة التأمُّل، وكذلك فعل المفكرون، والعلماء، وكلُّ من يدرك أبعاد لحظات الصمت وثراء آثار التأمُّل والتفكُّر...
كذلك ما عُرِف من فوائد العزلة في أوقات الفتن حيث هي وسيلة من وسائل العصمة منها وأول من وجَّه إليها خالق هذا الإنسان سبحانه وتعالى حين أمر بعض الأنبياء بألاَّ يتكلموا لثلاثة أيام، وكذلك فعل في توجيه مريم ابنة عمران حين أخذت صبيَّها النبي عليه السلام إلى قومها... فكانت لغة الإشارة أول أدلة الصمت، والصمت في ذلك وحدة مع النفس، مجلبة لتفكُّر الآخر بما يضفي على هذا السلوك من جوانب الإفادة في علاقة التفاهم بين الواحد والآخر، وبين الواحد والجماعة.. «41 آل عمران»، وكذلك «22 مريم، 26 السورة نفسها».
والعزلة من قبل ومن بعد عند التفرُّد بالذات، هي مجداف الإلهام ومركبة الإبداع، والابتكار، ولا أصدق ما يؤكد هذا إلا ما توصل إليه علماء وعباقرة ومفكرو الماضي والحاضر من خلال تجديفهم في بحور إبداعهم وعودتهم فرادى يتميزون بما التقطوه من هذه البحور مما أفادت به البشرية. فالعزلة مع النفس بهدف الاستفادة في كشف خباياها واكتشاف قدراتها مفجرة لطاقاتها، وشاحنة لملَكاتها وشاحذة لمهاراتها...، ما لم تكن في تفجير جوانب الإفناء فيها والتدمير لما سواها، فتغدو عزلة سالبة.
فأيِّ عزلة تركن إليها، فأنت ذاتك...
وأيّ اندماج تكون فيه فأنت ذاتك...
كلاهما عاكسان لما هو أنت...
فمَن، وكيف؟!
مَن أنت؟!
وكيف أنت؟!
في اندماجك، أو وحدتك؟!.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved