في معرض مناقشتي لداء العجز العربي إعلامياً أوردت في المقالة السابقة قائمة مختزلة فحواها ما يجمع ويفرق بين عرب الجاهلية وأحفادهم عرب «العولمة».. هذا وقد ذكرت أن الأحفاد قد ورثوا عن أجدادهم عدداً من الغرائز والسمات التي من ضمنها الإصرار على الفرقة والتشتت، والشجاعة على الذات فقط، وإثخان هذه الذات بالجراح ومن ثم الوقوف على جثتها فتغسيلها بالمدح وتكفينها بالفخر، بالإضافة وعلى غرار قاعدة «من شابه أباه فما ظلم!» فلا الأجداد ولا الأحفاد حققوا أي انتصار عسكري خارج حدود «حروبهم الذاتية» إلا في معركة واحدة لكل منهما «حربي ذي قار ضد الفرس واكتوبر 1973 ضد بني صهيون»، جنباً إلى جنب مع تشابه الأجداد والأحفاد فيما يتعلق بموقعيهما «الهامشيين» في منظومة القوى العالمية من عصريهما، «الروم والفرس لعرب الجاهلية، ومعسكري الرأسمالية والشيوعية بالنسبة للأحفاد»، وأشرت كذلك إلى اشتراك الأجداد والأحفاد في الحقيقة الماثلة في أن الجهل قد أضر بعرب الجاهلية غير أن التعليم لم ينفع عرب العولمة أيضاً، وأخيراً فالأجداد ومثلهم الأحفاد لم يتوانوا عن الاستعانة بالغريب لقتال القريب.
عليه فما هي حيثيات ومضامين هذه المقارنة التاريخية «البيولوجية!» العاجلة فيما يتعلق بموضوع عوامل فشل عرب العولمة إعلامياً؟ حسناً الإجابة كالتالي:
1 أسباب حضارية: فثمة فهم خاطئ لمفهوم «التفاعل الحضاري» لدى عرب العولمة. فكما تأرجح عرب الجاهلية بين الهامشية والعزلة فيما يتعلق بعلاقاتهم «الدولية!» فعرب العولمة «لا في العير ولا في النفير» أيضاً، فليس لديهم قواعد فكرية/ ثقافية تمنحهم القدرة على الانطلاق فالعودة بكل ثقة «وسلامة» إلى قواعدهم، ولهذا فقسم منهم انطلق «ولم يعد!»، وقسم آخر «انعزل ولم يفد!» وهنا يحضرني ما قرأته لأحد المستشرقين، حيث ذكر ما مفاده أن العرب هم السبب فيما لحق «بشخصيتهم» الحضارية من فصام حضاري، ففي الوقت الذي لا يترددون فيه عن استيراد كل منتجات الثقافة الغربية «المادية»، تجدهم يأنفون وهم العالة حتى عن الاطلاع على حقيقة «قيم الغرب» الثقافية الإيجابية. هذا ومن الثابت تاريخياً أن لا أحد من الأقوام السابقة قد غامر فكرياً مثلما غامر المسلمون الأوائل، وليس بمقدور أحد أن ينكر ما طال المجتمع الإسلامي وقتذاك من تأثيرات حضارية أساسها تفاعلهم مع الحضارات الأخرى واختلاطهم بالثقافات المغايرة، ولا تخفى أبعاد انتقال «مراكز التأثير» الإسلامية من المجتمع المدني صغير الحجم إلى مجتمعات متعددة الأعراق والثقافات، وثمة لاختيار دمشق كعاصمة من قبل الأمويين من المضامين الحضارية ما لا يتسع له الحيز المتاح، ومثلهم العباسيون في بغداد، هذا فيما يتعلق بأوائلنا، أما «عربوه!» العولمة «فبسم الله عليهم!»، حيث لديهم من «الخصوصية» ما جعلهم يقعون ضحايا للخوف عليها فماتوا وماتت الخصوصية كذلك.
ومن لدن هذا العامل ينبثق عامل آخر يتمثل في أن:
2 الخوف من الجديد يجعل من العقول حديداً، فالعرب يريدون أشياء مجانية، إنهم لا يعترفون بأن لكل شيء ثمناً، على غرار مضامين مثلهم العامي القائل بأن «لا دم إلا بفصد عرق!» أو كما يقول عجز بيت شاعرهم الذي نصه: «لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا..»..، وكقول الآخر: «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى.. حتى يراق على جوانبه الدم»، وبالمناسبة فالمفاهيم المذكورة من قبيل «الدم والشرف» لها جوانب وحيثيات ثقافية/ فكرية مثلما لها من الجوانب المادية، بمعنى آخر لا يوجد تقدم مادي بمعزل عن التقدم الفكري، والعكس أيضاً صحيح «فلولا هذي ما جت هذي!» كما يقول العامة.
3 أسباب عسكرية/ نفسية: فكما اقتصر عرب الجاهلية على استيراد السيوف «الهندية» لغرض حز رقاب بعضهم الآخر، فقد استورد عرب العولمة من الأسلحة الغربية الفتاكة ما الله به وحده عليم، وطبعا فالهدف الرئيس من هذه الأسلحة هو اتقاء شر القريب، لا دفع ضرر الغريب.
4 لا فرق بين الجهل المطبق والتعليم الذي لا ينفع ولا يُطبَّق، بل إن الأخير هذا أخطر وأكثر ضرراً من الجهل، لا سيما أن التعليم هو من ضمن الأشياء الحياتية التي إما أن تؤخد كلها أو تترك برمتها، فالعلم لايعترف بأنصاف الحلول التعليمية، وفي هذا المنحى لعلك تتذكر أن نصف المعرفة كما يقول المثل هي أخطر من الجهل.
5 عليه فمن الممكن القول إن انتفاء قدرة العرب على التأثير في الرأي العالمي إعلامياً ليس مرده عجزهم التكنولوجي، بل بالأحرى هو عجزهم الثقافي، فإن يكن لدى العرب «أجهزة» فليس لديهم «تجهيز» فكري، أو جاهزية نفسية، أو «إجهاز» ومبادرة للإنجاز، وكل هذه المتغيرات كما ترى أمرها ثقافي لا تقاني، فالأجهزة الصماء لا تنفع حين يُفتَقد الأهم، وأعني بذلك قيم «التجهيز والإجهاز والإنجاز» الفكري/ الثقافي، وقول كهذا لا يقتصر على المسألة الإعلامية بل ينسحب على كافة أوجه الحياة.. وسوف أتطرق إلى ذلك في مقالة منفصلة في المستقبل القريب إن شاء الله.
|