فر الشعر الى امدائه البعيدة، وغادرت الشعرية المبتغاة المحفل، ونام المنبر باكراً لكي يستيقظ كما يليق بتلميذ مؤدب، مهذب لم يعد الشعر ذلك المخلوق الناري العجيب.. لم يعد ذلك الشقي المشاكس.. اصيب بالغباء، ووسم بالتراخي وأسماه المتشاعرون بالحداثي والنثري.
قليل الوفاء هذا الشعر الذي يحل في كل محفل ويعلو في كل منبر.. أضحى ذلك المخلوق العجيب في معية المديح مثخناً بجراحات الخيبات المتتالية.
لم يعد الشعر زادنا العقلي والمعرفي بعد ان تلاشت قدرة تلك المنابر على التأثير في المتلقي، ولم تعد المقاهي في القاهرة، ودمشق، وبيروت والخرطوم وبغداد هي منبر الشعراء المحتفين بشعرهم، والمنتمين الى اصولهم العريقة في فحولة الشعر العربي منذ قرون.
باختصار شديد هرب الشعر كذئب وطأته حوافر الحذر..فلم نعد نذكر الشعر الا في تلك المناسبات المشوهة على هامش منتدى ما ، او معرض ما.. او في صالون تتسابق به الوجاهة والثراء والشهرة في استمالة وده المنشود.
يقول الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في محاورة جديدة عبر احدى «الفضائيات» ان الشعر هو اول ضحايا تراجع المثقف امام طغيان المادة.. حتى اصبح الشعر مطية المتشاعرين.. بل انه يرى ان «المنافي» وهي وقود الشاعر وملهمه أضحت في هيمنة «البزنس» و «الانترجنسيا» حتى اضحت قضيتنا مجرد صفقة او صفقات تدر الارباح.
وللشاعر سميح القاسم رؤيته الخاصة عندما يصف المبدع اليوم بأنه خائن للمنابر التي يأتي منها صوت الشعر..فالمنابر الخطابية لم تعد هي الصوت الصادق، والمجلات الادبية تراجعت والملاحق تحولت الى مجرد اعادات واجترارات لبعض القصائد والمناسبات اللامعة.
قال «القاسم» ان الشعر فقد صوابه في ضباب المقاهي التي يعلو بها ضجيج الفضائيات، وتبدد صوت الشاعر في عتمات الليل العربي الطويل.. في السجون والمنافي.. والابعاد، والطرد، والتلويح بالانترجنسيا.
ويقول الشاعر ان الشعر يفر الى مغاور الماضي.. وتباع بقاياه بأثمان بخسة.. هكذا يريد «البزنس» من شاعر اليوم. وفي هذا الفرار القسري للشعر اشترى الاثرياء المنابر الشعرية وحولوها الى منابر خاصة جداً.. ابواقاً للدعاية، والاعلام عن ذواتهم.
طال حديث الشاعر سميح القاسم عن معضلة المخلوق الناري.. المسمى «الشعر».. اظنه بكى من تداعيات هذا المآل الذي اصاب الشعر العربي تحديداً.. لنستشرف من هذه الاجابات التي وردت على لسانه حجم مأساة العرب الذين اخذوا يفقدون المعاني.. ويقبضون ثمنها القليل.. هؤلاء الذين حولوا المنافي الى تجارة يمارسون بها استمالتهم لمن سواهم.
بيع الشعر ولم يقبضوا الثمن.. وتحول الى هذه المساومة التي تنال منهم، ومن عطائهم، لتجعلهم في موقع الاتهام الخطير.. لصفهم الابواق المأجورة بأنهم المحرضون، والاشقياء والمشاكسون.
ها هو الشعر يهرب كذئب وطأته حوافر الحذر.. ليترك في الامداء رائحته القديمة وبقايا غبار العدو في مفازة ليلنا الطويل..
ما بقي من الشعر لا يعدو كونه تحصيل حاصل حتى ان ما يقوله الشاعر سميح القاسم ومجايلوه بات في ذمة التاريخ.. فها هو يهرب في شعره الى المنافي..
لكن هل سيبيعه ويقبض الثمن.. لا اظن القاسم ودرويش، وقلة سيفعلون ذلك.. سيقاومون الاغراء، والاغواء، والارهاب حتى آخر لحظة.. اظن ان بعض قصائد سميح القاسم، ومحمود درويش، ومظفر النواب تقسم على ذلك.. حتى وان خان الشاعر منابره، وان بيعت الغربة بأثمان بخسة ستظل قريحة الشاعر غالية الثمن صعبة المنال.
|