أراد فخامة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي لعهد التغيير ان يكون عهد الالتحام القوي بين الدولة والدين فأقام مشروعه الاصلاحي على القيم الحضارية، ونزّل الهوية العربية الاسلامية منزلة متميزة في سياسة العهد الجديد التي تتكامل فيها الأبعاد الروحية والمادية، كأقوى وأجلى ما يكون التكامل، الذي يؤسس له فخامته من خلال مفهوم جديد للهوية يخرج بها من دائرة الانتماء الروحي الصرف الى رسالة الفعل والبناء وخدمة قضايا الفرد والمجتمع من خلال حثها على التعلم والرقي ودعوتها الى البذل والكد وسعيها الى تكريس قيم التسامح والتكافل والتضامن واستفراغ الجهد من أجل استحقاق أمانة الاستخلاف في الأرض دون قطيعة أو انبتات عن سائر الحضارات الكونية والثقافات الانسانية.
وإذ تمثل هذه المعاني التي تؤكد صدق الانتماء الحضاري وقدرة الانسان التونسي على مواكبة المستجد والتمسك بالثوابت في ذات الوقت، فقد عمل على رعاية الدين الاسلامي الحنيف من خلال العناية بمناراته وإحياء قيمه وتعاليمه، فكانت الاحاطة الشاملة ببيوت الله ترميما وبناء وتعهدا وتجهيزاً، إذ لا يترك فخامته فرصة تمر أثناء زياراته الى جهات الجمهورية دون ان تمتد أياديه السخية بالعطاء في اطار اعتمادات رئاسية للجوامع والمساجد والزوايا حتى تكون في أبهى صورة لاستقبال روادها، اضافة الى الدعم المتواصل لوزارة الشؤون الدينية التي تخصص جانبا كبيرا من ميزانيتها لتكريس هذا الخيار الرئاسي الرائد.
ويأتي جامع قرطاج الكبير الذي تكفل فخامة الرئيس زين العابدين بن علي ببنائه لبنة أخرى تنضاف الى هذا الصرح العظيم خصوصا وان هذا المعلم يقام على أرض قرطاج ذات الامتداد التاريخي والثراء الحضاري وهو انجاز له أبعاده الفلسفية ودلالاته الحضارية أراد سيادته أن يجعل منه شاهدا على تعاقب الحضارات والثقافات والأديان، من خلال موقعه من جهة وتفرده بشكله المعماري الأصيل وعناصره الجمالية من جهة ثانية.
فهذا الجامع الكبير الذي يتابع رئيس الدولة شخصيا مراحل انجازه يعطي لمدينة قرطاج بعدا ثقافيا وحضاريا جديدا ويسجل على صفحات سجلها مرحلة من تاريخها الحديث والمعاصر أهملتها الأيام وتناستها العزائم الى ان جاء عهد التحول المبارك ليمنحها اعتبارها ويصالحها مع ذاتها، تأكيدا لعمق الوعي بحركة التاريخ، وايمانا ثابتا بأن تعاقب الحضارات والثقافات لا يعني إلغاء بعضها البعض، بل هو الاثراء المفيد الذي يقطع مع كل أشكال الصدام أو الصراع.
لقد أرادفخامته أن يكون هذا المعلم شاهدا على هذه المعاني السامية النبيلة مترجما لها على أرض الواقع، وهو ما سيشهد له به التاريخ وما ستذكره له الأجيال تكريسا لما صدع به في خطابه الذي ألقاه يوم 3 فبراير 1988 حيث قال:« لقد كان أول ما بادرنا به بعد 7 نوفمبر، هو رد الاعتبار الى الدين الاسلامي في هذه البلاد، ايمانا منا، أن ديننا الحنيف، قوام حضارتنا، وهو ركن أساسي في مجتمعنا، ونحن عاملون على رعايته ورفع منارته، وإحياء شعائره، واتباع تعاليمه واتخذنا في سبيل ذلك، جملة من الاجراءات العملية، والقرارات الهامة».
الإسلام مقوم أساسي في المشروع الحضاري لتونس التغيير
وتعيش تونس منذ انبلاج فجر السابع من نوفمبر 1987 عهدا جديدا، أحدث نقلة نوعية في واقع البلاد والعباد، وشمل مختلف الميادين: الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحقق من المكاسب والمنجزات في سنوات قليلة، ما لم تحققه البلاد عبر تاريخها الطويل، فازداد إشعاعها وتألقها، وعم خيرها ونماؤها، واستتب أمنها وأمانها، وتحققت لشعبها أسباب السعادة وطيب العيش، استقرار سياسي، وتقدم فكري وحضاري، وتضامن وطني، وديمقراطية مسؤولة، وعدالة اجتماعية أزالت الفوارق بين الفئات والجهات وعمقت الشعور بالانتماء والمواطنة وكرست فهما شاملا ومتكاملا لمبادئ الحرية والعدل وحقوق الانسان في كل مجال.
إنه التحول المبارك الذي قاده ابن تونس البار فخامة الرئيس زين العابدين بن علي بوعي وثبات وإيمان، محققا المصالحة بين الشعب ومقومات شخصيته، معيدا لهويته العربية والاسلامية حضورها واعتبارها. إذ أصبحت تحتضن الذات الوطنية وتمنحها صيرورتها وتعود بها الى جذورها الثقافية وأصولها الحضارية استلهاما من مقولة فخامته في خطاب ألقاه يوم 20 ديسمبر 1989:«إن عروبة تونس وإسلامها هما في الشخصية التونسية ركنان أساسيان لم تزدهما المحن والأزمات عبر التاريخ الطويل لبلادنا إلا متانة ووثوقا، وخير مثال على ذلك مواقف الرفض، التي وقفها الشعب التونسي أيام الكفاح التحريري إزاء أي مبادرة تستهدف أصوله الحضارية وصموده أمام أي شكل من أشكال التغريب».
لذلك كان أول ما بادر اليه فخامته رعاية الدين الاسلامي الحنيف باعتباره المقوم الأساسي للشخصية التونسية، وذلك من خلال اجراءات تقدمية ومبادرات رائدة قطعت مع سياسة تهميش الدين وتضييق مجاله، لتمنحه حضوره الفاعل في المجتمع وعيا بأهمية ما تضمنته تعاليمه السمحة من قيم ومبادئ تؤمن بالحرية والعدالة والمساواة وتدفع الى العمل والبذل والعطاء وتؤسس للإخاء والتعاون والتعايش وتقطع مع كل أشكال التحجر والانغلاق وشتى ضروب الشحناء والبغضاء والصراع والصدام.. لقد كان رد الاعتبار لجامعة الزيتونة أعرق جامعة اسلامية على الاطلاق، من خلال تجديد رسالتها بعد غياب دام ثلاثة عقود وإكسابها مضامين تستجيب لتغيرات العصر، ومتطلبات المرحلة، بعد ان ران عليها الاهمال والضياع، لتكون بحق بعيد التغيير الحضاري في تونس، رمزاً يختزل مدرسة فكرية قوامها تسامح دائم ونظرة متجددة الى الدين والتاريخ وتوق الى حياة روحية خصبة وعمل دؤوب لخير الانسانية . ولتصبح عن جدارة وبكل اقتدار جامعة، تشع بعلمها الغزير وفكرها المستنير وتسهم في التراكم المعرفي الانساني والتلاقح الحضاري العالمي، بما يليق بسمعة هذا البلد الأمين الذي قصده الصحابة والتابعون وتخرج منه العلماء والمجتهدون في مختلف ضروب الفنون والعلوم.
وتعزيزا لهذا الاختيار الوطني في مصالحة الشعب التونسي مع مقومات هويته ومرتكزات أصالته تم تأسيس مركز للدراسات الاسلامية، بمدينة القيروان، تكريما لعاصمة الاسلام الأولى في الشمال الافريقي، وتقديرا لدورها الريادي في نشر علوم الدين الاسلامي الحنيف، واحياء لتراث علمائها ومجتهديها ومصلحيها أمثال أسد بن الفرات وسحنون بن سعيد، وابن أبي زيد القيرواني، والبرزلي وغيرهم كثير.
وانطلق هذا المركز في تطوير الدراسات والأبحاث المتعلقة بتراثنا العربي الاسلامي ورصيدنا المعرفي وبادر الى اقامة اللقاءات والندوات خدمة للفكر المستنير وتعريفا بالعلماء المشاهير، عبر عصور تاريخ هذا البلد الأصيل، عطفا على ما تضطلع به عديد الهياكل والفضاءات الأخرى المتخصصة في هذا المجال بالذات والتي انضافت اليها ولأول مرة في تاريخ تونس كتابة دولة للشؤون الدينية سرعان ما تطورت الى وزارة تعنى بالخطاب الديني وتسهر على تطويره بما يستجيب للجمع الواعي والمسؤول بين الأبعاد الروحية والتبصير بالشعائر الدينية من جهة وخدمة المجتمع وقضاياه من جهة أخرى، فضلا عما تسهم به في تنشيط الحركة الثقافية والفكرية من خلال الندوات والملتقيات المحلية والوطنية والدولية، وعبر وسائل الاعلام المكتوب والمسموع والمرئي وما تقوم به من جهود لتنظيم الحج والعمرة، وبناء المعالم الدينية وصيانتها وترميمها وتجهيزها وصونها من كل ما عساه أن يحيد بها عن أداء رسالتها الدينية والمجتمعية المقدسة.
وسيسجل التاريخ للرئيس بن علي ان أكثر من نصف عدد الجوامع والمساجد في تونس تم تشييده في أربعة عشر عاما من عمر التغيير مقابل ما تم بناؤه على امتداد أربعة عشر قرنا من الزمان، تجسيدا لمنزلة الدين وشعائره في سياسة التغيير المبارك.
كما سيسجل التاريخ الرعاية الشخصية التي يوليها فخامته للاطارات الدينية من أئمة خطابة وأئمة الصلوات الخمس ومؤذنين ومؤدبين وقائمين على شؤون بيوت الله، تترجمها لمساته السخية المتلاحقة ولفتاته الانسانية المتواصلة بالترفيع في خمس مناسبات منذ فجر التغيير المبارك، في المنح الشهرية المسندة اليهم حيث بلغت نسبة الزيادة 33.333% مقارنة مع ما كانت عليه قبل 7 نوفمبر 1987 ولم تزل المكاسب في مجال الشؤون الدينية تتتالى وتتتابع، بحرص موصول من فخامته، من ذلك رعايته الشخصية لكتاب الله تحفيظا وتلاوة وتفسيرا، وطباعة ونشرا، وتشجيعا لحفظته والساهرين على خدمته، كما حقق السبق والتفرد بإصدار طبعتين أنيقتين للمصحف الشريف بإشراف من الدولة التونسية لأول مرة في تاريخ تونس القديم والحديث تأكيدا على أنها الراعية الحقيقية لشؤون الدين والساعية الى تكريس قيمه ومضامينه في الواقع استلهاما من روح البيان التاريخي الرائد الذي بشر به التحول المبارك فجر السابع من نوفمبر الخالد.
|