* القاهرة مكتب الجزيرة شريف صالح:
الحج عبادة عزيزة على قلب كل مسلم، فهو الركن الخامس من أركان الإسلام. كثير من الرحالة المسلمين من أقطار المعمورة جاءوا إلى مكة والمدينة حجاجا وزواراً. وعاشوا خلال السياحة في تلك البقاع المقدسة حالات وجدانية لا تنسى مهما مرت السنون، حتى لو كانت الزيارة لمرة واحدة فإنها دائماً تبقى حية وملهمة. كذلك هناك العديد من الرحالة الأجانب الذين رأوا بهجة المسلمين في المدن المختلفة بموسم الحج ورصدوا احتفالات عيد الأضحى المبارك بمحبة وتقدير جديرين بالاعتبار.
هل تغيرت مكة خلال مئات السنين؟ هل تغير الحج؟ وما مشاعر هؤلاء الرحالة؟ أسئلة كثيرة بحثت الجزيرة عن إجابة لها في كتب الرحالة وقصصهم الجميلة وشهاداتهم الحية والصادقة:
وصف مكة والحرم
قام ابن جبير برحلة شهيرة إلى مكة المكرمة خصص لها أغلب فصول كتابه «رحلة ابن جبير» وكان ذلك عام 578ه، أدى خلالها فريضة الحج ووصف أهم معالم مكة وأبوابها والكعبة المشرفة ولقاءه بإخوانه من المغاربة وغيرهم.
وصل ابن جبير إلى مكة المكرمة في شهر جمادى الأولى ووصف البيت الحرام قائلاً: «البيت المكرم له أربعة أركان وهو قريب من التربيع.. ودائر البيت كله من نصفه الأعلى مطلي بالفضة المذهبة.. وسقف البيت مجلل بكساء من الحرير الملون وظاهر الكعبة كلها من الأربعة جوانب مكسو بستور من الحرير الأخضر». على هذا النحو يستمر ابن جبير في وصف البيت الحرام بدقة متناهية فيما يزيد عن عشر صفحات، فيقول على سبيل المثال: «وفي اثر كل صلاة مغرب يقف المؤذن الزمزمي في سطح قبة زمزم ولها مطلع على أدراج من عود في الجهة التي تقابل باب الصفا رافعاً صوته بالدعاء».
وفي موضع آخر يقول: «للحرم تسعة عشر باباً أكثرها مفتح على أبواب كثيرة حسبما يأتي ذكره إن شاء الله «باب» الصفا ينفتح على خمسة أبواب وكان يسمى قديما بباب بني مخزوم. باب الخلقيين ويسمى باب جياد الأصغر مفتح على بابين هو محدث، «باب» العباس رضي الله عنه هو يفتح على ثلاثة أبواب، «باب» علي رضي الله عنه يفتح على ثلاثة أبواب.
وبعد أن يسرد هذه الأبواب يذكر المسافة بين الصفا والمروة بأنها حوالي أربعمائة خطوة وثلاث وتسعين خطوة.. وما بين الصفا والمروة ميل هو اليوم سوق حفيلة بجميع الفواكه وغيرها من الحبوب وسائر المبيعات الطعامية». ثم يبدأ بوصف مكة قائلاً: «هي بلدة قد وضعها الله عز وجل بين جبال محدقة بها وهي بطن وادٍ مقدس كبيرة مستطيلة تسع من الخلائق ما لا يحصيه إلا الله عز وجل ولها ثلاثة أبواب أولها «باب» المعلى ومنه يخرج إلى الجبانة المباركة وهي بالموضع الذي يعرف بالحجون.. ثم «باب» المسفلة وهو إلى جهة الجنوب وعليه طريق اليمن ومنه كان دخول خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم الفتح، ثم «باب»الزاهر ويعرف أيضا بباب العمرة وعليه طريق مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريق الشام وطريق جدة، ومنه يتوجه إلى التنعيم وهو أقرب ميقات المعتمرين يخرج من الحرم إليه على باب العمرة ولذلك أيضا يسمى هو بهذا الاسم».
يم يستطرد في وصف العديد من مشاهد مكة العظيمة وآثارها المقدسة مثل قبة الوحي وموضع ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ودار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهي اليوم دارسة الأثر، وجبل أبي ثور في الجهة اليمنية من مكة على مقدار فرسخ أو أزيد.
ويذكر ابن جبير أن مكة بلدة مباركة سبقت لها ولأهلها الدعوة الخليلية الإبراهيمية: {فّاجًعّلً أّفًئٌدّةْ مٌَنّ النَّاسٌ تّهًوٌي إلّيًهٌمً وّارًزٍقًهٍم مٌَنّ الثَّمّرّاتٌ لّعّلَّهٍمً يّشًكٍرٍونّ} [إبراهيم: 37]
فبرهان ذلك ظاهر متصل إلى يوم القيامة، وذلك أن أفئدة الناس تهوي إليها من الأصقاع النائية والأقطار الشاحطة فالطريق إليها ملتقى الصادر والوارد ممن بلغته الدعوة المباركة، والثمرات تجبى إليها من كل مكان فهي أكثر البلاد نعماً وفواكه ومنافع ومتاجر».
على مدار عام كامل تقريباً يستعرض ابن جبير رحلته إلى الأراضي المقدسة في مكة والمدينة والتي اختتمها بزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غادر إلى العراق وهو يردد:
محبتي تقتضي مقامي وحالتي تقتضي الرحيلا |
الاستعداد للزيارة والحج
في عام 871 قرر الرحالة التتري أن يقوم برحلة طويلة إلى الشرق الأقصى للوقوف على أحوال المسلمين في منشوريا ومنغوليا وسيبريا وغيرها من البلدان التي تقع في الصين وروسيا وفي منطقة آسيا الوسطى. وقبل أن يغادر الرحالة التتري «عبدالرشيد إبراهيم» مدينة استانبول ويودع بناته وأسرته قرر أن يفتتح تلك السفرة الطويلة للوقوف على أحوال المسلمين بأداء مناسك الحج وزيارة مكة المكرمة.
في البداية يقرر عبدالرشد أنه يقوم بتلك السياحة الطويلة امتثالاً للأمر القرآني الجليل: {سٌيرٍوا فٌي الأّرًضٌ} [النمل: 69]. ويقول: «ألزمت نفسي فكرياً بخدمة وطني وديني وعانى قلبي من كل البلايا، وتحملت كل مشقة وأنا أقول: الأمة.. الأمة.. ولا زلت أقول وسوف أقول ذلك.. فديني هو الإسلام وأمتي.. أيضا هي الإسلام: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين} [الحج: 78].
وأثناء مقامه بمكه حرص عبدالرشيد إبراهيم على تحصيل العلم من لدن علماء مكة، وفي تلك الفترة تعرف على المجاهد الكبير الشيخ شامل الذي ألهب الكفاح ضد الروس في بلاد القوقاز وكان بطلاً شامخاً تعرف منه على معاناة المسلمين في تلك الأصقاع النائية قبل أن يشد الرحال إلى هناك.
على هذا النحو كانت مكة دائماً نقطة الانطلاق للعديد من الرحالة المسلمين قبل أن يجوبوا الآفاق.
ويحكي الرحالة والمستشرق الإنجليزي ادوارد وليم لين الذي عاش في القاهرة منذ مائتي عام أن الاستعدادات الفخمة للحج ووجود هودج فاخر يحمله جمل يقود قافلة الحجاج من مصر إلى الحجاز يعود إلى عام 670ه أو قبلها قليل، وينسب البعض هذه الاحتفالات إلى الظاهر بيبرس بينما ينسبها آخرون إلى شجرة الدر.
الحج
في عام 1884م نشر المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون كتابه الشهير «حضارة العرب» وحاول من خلاله أن يقدم رؤية بانورامية مختصرة لهذه الحضارة العريقة تشمل العبادات والآداب والفنون والطبائع وغيرها من الموضوعات. ومن ضمن ما ذكره عن الحج أنه يتم «بواسطة القوافل العظيمة التي يعد أهمها ما يخرج من القاهرة والشام، وتكون الرحلة طويلة، ويهلك فيها حجاج كثير، وتهون المشقة في سبيل زيارة الكعبة المشرفة الشهيرة.. و إذا ما اقترب الحجاج من مكة حلقوا وخلعوا ثيابهم وقاموا بضروب الوضوء ولبسوا الأُزُر، ثم طافوا حول الكعبة سبع مرات واستلموا الحجر الأسود الشهير.. ثم توجهوا إلى جبل عرفات القريب من مكة وسمعوا فيه خطبة الإمام.
يم يضيف لوبون: «وفي الغالب يبلغ عدد الذين يزورون مكة كل سنة مئتي ألف حاج، وفي موسم الحج يتقابل المسلمون الذين يجيئون من أنحاء العالم الإسلامي الممتد من مراكش إلى الهند وحدود الصين ماراً بأفريقية الوسطى».
وعن مكة يقول لوبون : لمكة أهمية تجارية كبيرة للغاية عدا أهميتها الدينية والسياسية، فمكة من أعظم أسواق العالم، وفيها يتقايض بالسلع التي تردها من أنحاء الدنيا.
العودة
يصف إدوارد لين عودة قافلة الحج المصرية كما رآها بالتفصيل في عام 1250ه «1834م» فذكر أن قافلة الحجاج تصل إلى القاهرة أواخر شهر صفر، ولذلك يسمي العامة هذا الشهر «نزلة الحجاج» ويصل «جاويش الحج» قبل القافلة بأربعة أيام أو خمسة راكباً هجيناً سريعاً ويصحبه عربيان، وهو يسرع ليعلن نبأ قرب «الحج» واليوم المنتظر لوصولهم العاصمة، وليحمل رسائل الحجاج إلى أصدقائهم.
ويخرج بعض الناس إلى مقابلة أصدقائهم من الحج على مسيرة يومين أو ثلاثة، فيحملون معهم مؤناً طازجة وفاكهة وملابس للحجاج المتعبين، ويندر أن يذهب الفقراء إلى أبعد من بركة الحاج «على بعد أحد عشر ميلاً تقريبا من العاصمة» حيث تمضي القافلة الليلة السابقة على ليلة دخولها العاصمة.. ويحضرون لهم الحمير عوضاً عن الجمال المنهكة.
يقول لين: «وصلت القافلة إلى آخر محط لها: الحصوة، وهو موضع من الصحراء كثير الحصو، بالقرب من ضاحية القاهرة الشمالية، في الليلة السابقة، عشية الرابع من ربيع الأول، وغادر بعض الحجاج القافلة إلى العاصمة بعيد غروب الشمس، ودخلت القافلة هذا الصباح، الرابع من الشهر، وكنت خارج الأسوار بعيد الشروق وقبل أن تقترب القافلة، غير أني قابلت نفراً من الحجاج لم يطيقوا الانتظار وقد ركبوا الحمير.
وصادفت أيضا جماعات عديدة من النساء كن خرجن يستخبرن عن أقاربهن، وكن عائدات بالصراخ والنحيب «لكثرة الهالكين في الطريق».. أخذت القافلة تقترب من أبواب العاصمة في صفوف ثلاثة، اتجه أحدها إلى باب النصر، والثاني إلى باب الفتوح والثالث إلى باب العدوي، وكانت القافلة هذا العام أكثر عدداً وكانت تضم نسبة غير عادية من النساء بسبب تجنيد كثير من الرجال «أيام محمدعلي»!.
ويجلب كثير من الحجاج هدايا من «الأرض المقدسة» ماء بئر زمزم المقدس في قوارير من الصيني أو قناني من القصدير أو النحاس، وقطعاً من كسوة الكعبة التي تجدد في موسم الحج وأمشاطاً من عود الند و«سبحاً» من المادة نفسها أو من غيرها و«مساويك» غمست في ماء زمزم لتكون مقبولة، وكحلا، وشيلانا من صنع الحجاز وأشياء مختلفة من الهند.
|