Tuesday 14th May,200210820العددالثلاثاء 2 ,ربيع الاول 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

مدن التماسيح (2) مدن التماسيح (2)
د. عبدالرحمن بن حبيب

قلت للقروي الفصيح: اروِ حكايتك وإياك والإطالة، فهذه رحلة عمل وليست بطالة، وقد أطلت عليّ وأصبتني بالملل، وأنت تحادثني عن الحمار والبغل، «تراك صكّيت عليّ يا حقنة!»
فغدا حالك معي في هذه الطائرة كصاحب أبي نواس ولكن بلا بغض ولا مقت:


شهدتُ البطاقي في مجلس
وكان إليّ بغيضاً مقيتا
فقال اقترح بعض ما تشتهي
فقلت اقترحت عليك السكوتا

قال: أقول، وبالله التوفيق، إنني عندما ترحلت من قريتي قاصدا مدينتكم، متمثلاً قولة الخرساني:


هراة أرض خصبهاواسع
ونبتها اللّفاح والنرجسُ
ما أحد منها إلى غيرها
يخرج إلا بعد أن يفلسُ

وكان غرضي الالتحاق بدورة تدريبية، ترفع من مقامي في وظيفة منسية، وفيما الشمس آذنت بالمغيب، ولجت مدينة هي غابة من الإسمنت، ليلها نهار، وهواؤها غبار. وبعد لأيٍ وضياع، عثرت على موقع سكني المحجوز، ولكن اعترضني حارس عجوز.
قال: ما شأنك ياغريب، قلت: موظف مبتعث للتدريب، وأريد المقام في سكن الترحيب، قال: إن غداً لناظره قريب. فشكوت له قلّة حيلتي، وضعيف راحلتي، قال: عد أدراجك يا فلان، وأنظر لك عن خان.
قلت: لن أبرح مكاني حتى يصنع الله ما يريد، فليس لي سقف يأوي عظامي، غير سكني الخاوي الذي أمامي، قال: امض، ولاتناكف أو تخالف على سكنٍ تالف، فلو عاينته عن قرب، لظننت أنه من بقايا حرب.
وحين لم أر مناصا تقهقرت انتكاصا، ومضيت إلى حديقة مجاورة، غاضباً مغاضباً، جائعاً مجوعا، حالي من حال الدنف، وزوار الحديقة أصواتهم من المرح في عنف، ورائحة المشويات تسلخ جيوب أنفي، وهم يرونني دون دعوة شرف، فكان أن أبصرت زميلاً قديما متقرفصاً ويأكل، وحين حدّق في ملامحي ارتسمت على وجهه إمارات الكآبة، وكأني بأبي نواس حين قال:


رأيت الفضل مكتئباً
يناغي الخبز والسمكا
فقطب حين أبصرني
ونكّس رأسه وبكا
فلما أن حلفت له
بأني صائم ضحكا

قلت: حياك الله يا أبا زيد، قال ما أنا بأبي زيد بل أبو عبيد، قلت ولست عيسى بن هشام إنما ابن لئام، بل أنت عيسى صاحب ابن الرومي:


يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
ولو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد

ثم عدت أداهنه بطيب الكلام، وأذكره أيام الصبا والمعهد في بلدتنا، فنفر مني ولم يحر جوابا، قلت قولة الحسين بن الحجاج:


ولقد عهدتك تشتهي
قربي وتستدعي حضوري
وأرى الجفا بعد الوفا
مثل الفسا بعد البخور

قال: إني أتعفف وأترفع عن كلامك الوضيع، فقد عهدتك قروي جلف رقيع، فاسحب الكلمة النابئة من شعرك، قلت: شمها تنسحب! قال: «إلفقها يا كمخة»، فأنفت عن التخاطب معه وتركته لشأنه على هذا الصدود، متمنيا أن يمسخ الله طعامه إلى دود.
ومضيت في حال سبيلي، وتلمست بعض طعام في راحلتي ذات العجلات، وعدت إلى الحديقة تقودني خطاي المتهالكة، ضاعت بوصلتي وطويلة ليلتي، فكان أن غالبني النعاس، وتكالبت عليّ الحشرات، فصرت كما قال الشاعر:


لقد علم البرغوث حين يعضني
ببغداد أني في البلاد غريب

وفي الهزيع الأخير من الليل كنت بين نعاس ونوم، وحولي البعوض سهران يحتفل على مائدة أنا لحمها ومرقتها، قلت: لا غضاضة في ذلك، فقد سبق للعلامة أبي منصور الثعالبي أن عاني منها:


وليل بته رهن اكتئاب
أقاسي فيه ألوان العذاب
إذا شرب البعوض دمي وغنى
فللبرغوث رقص في ثيابي

وعندما اشتد الأذى، دعوت الله أن يقلل البعوض أو يرهقه من الرقص والدوران، ومتذكرا بيتي ابن رشيق القيرواني:


يا رب لا أقوى على دفع الأذى
وبك استعنت على الضعيف الموذي
مالي بعثت إلى ألف بعوضة
وبعثت واحدة إلى نمرود

وبينما أنا أراوح في نوم هو لليقظة أقرب، إذ باغتني حارس كأنه عقرب، وطفق ينهرني ويزجرني، قلت: على رسلك، فمن أنت.
قال: من بني آدم، قلت: ظننت أن هذا النسل انقطع في هذه المدينة، فلا تقلق، لست صعلوكا ولا ممسوكا، قال: اخرج قبل أن الطم فوك.
قلت له: بل قل الطم فاك فهي منصوبة، قال ستكون منصوبا على السياج إن لم تغادر، قلت لم؟ قال قد يداهمك كلب ضال أو سيارة طائشة، فران على هاجسي كلب عثمان بن دراج الطفيلي.
حين سئل لم لا تدخل بستان فلان البديع. قال: لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال. قلت الكلاب أهون شرا من البعوض والبراغيث:


ليل البراغيث عناني وأنصبني
لا بارك الله في ليل البراغيث
كأنهن وجلدي إذ خلون به
أيتام سوء أغاروا في مواريث

قال: دع عنك هذا وامض إلى حال سبيلك، قلت: أخرني سويعات ثلاث، فقد شارف الفجر على البزوغ، قال: أنت تحادثني في ظلام حالك، ولست أدري ما حالك، هل أنت سكران وشارب، أم مجرم هارب، «وترى إن ما ذلفت كفختك بها النعلة!!»

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved