د. وليد السيد معماري/جامعة لندن
تطرقنا في المقال السابق لموضوع العلاقة بين المسجد الجامع في المدينة العربية التقليدية وبين النسيج الحضري العضوي للمدينة، وكيف ان هذه العلاقة النمائية التكاملية هي تبادلية حيث تتفاعل الاحيزة الفراغية الحضرية المحيطة بالمسجد تفاعلا وظيفيا مع عناصر المسجد الجامع وتشكل في بعض الاحايين امتدادا لها. يضاف إلى ذلك ان هذه العلاقة النمائية التكاملية التبادلية تتناغم مع كلية النسيج الحضري للمدينة العربية التقليدية وتشكل بعضا من كل أو عضوا من نسيج شامل متناغم منسجم. والتساؤل الذي يطرح من قبيل المقارنة في هذا الاطار ويشكل موضوعنا في هذا المقال هو: هل يلعب المسجد الجامع المعاصر نفس الدور في تنظيم نشأة النسيج الحضري للمدينة العربية في الوقت المعاصر؟ وهل ينسجم تكامليا مع البيئة الحضرية المحيطة كما المسجد الجامع في المدينة العربية التقليدية؟
تبين النظرة العجلى للبيئة العمرانية للمدينة العربية المعاصرة وجود تباين ملحوظ في طبيعة تكوين النسيج العمراني الحضري بين الماضي الذي يمكن ان تنسب اليه المدينة على انها تقليدية -والذي يختلف زمنيا من مدينة لأخرى حسب تاريخ كل مدينة.
وإذا كان لنا ان نتفق ابتداء على ان المؤثرات البيئية المختلفة تلعب دورا رئيسا في تشكيل العقلية التي تصوغ المحيط الحضري حسيا، فإن لنا حينئذ ان ندرك ان هذه العوامل والمؤثرات التي تتراوح ما بين اجتماعية وسياسية وثقافية ودينية ليست ثابتة ما بين الماضي وما بين الحاضر، ومن هنا فإن مدى التباين بين هذه العوامل على امتداد شريحة زمنية طويلة لا بد وان ينعكس مباشرة على الناتج العمراني الحضري وما يمكن ملاحظته حسيا بسهولة من خلال النسيج العمراني وآلية ترابطه وتكوينه. وليس موضوعنا هنا البحث في مدى التباين بين هذه العوامل التي شكلت وتشكل النسيج العمراني بين فترتين تاريخيتين. انما ما يعنينا في هذه العجالة الخاطرية ان نركز على الناتج مما يمكن لحظه من خلال النسيج العمراني التخطيطي للمدينة ككل والتي يقع المسجد الجامع كأحد ابرز عناصرها التخطيطية - على الاقل فيما يبدو ضمن المدينة التقليدية.
وهذا التباين الذي يمكن لحظه يمكن تلخيصه في مجموعة من المظاهر التي تشكل أبرز خصائص النسيج العمراني للمدينة العربية المعاصرة (وحين نقول مدينة عربية معاصرة فإن ذلك يعني عموما اية مدينة عربية قائمة على تخطيط حديث تبعا للقوانين والتشريعات المستمدة من قوانين التخطيط المعاصرة وتتمثل في قوانين البلديات والمحافظات وغيرها والتي غالبا ما تعكس نظما تخطيطية غير تقليدية بالمفاهيم التي عالجها المقال السابق والتي سنعرج عليها طفيفا تاليا من قبيل المقارنة مع النسيج العمراني المعاصر) وهذه المظاهر هي:
أولا : النسيج العمراني الحضري المعاصر يقوم على التخطيط الكلي الشامل المسبق باعداد ما يعرف بالمخطط الهيكلي العام كما انه يعتمد الوحدات العمرانية الحضرية المتكررة والتي تتبع خصوصية ملكية وبنائية مستقلة نسبيا في علاقتها بمجاوراتها من النسيج العمراني الحضري، واستقلاليتها النسبية هذه غالبا ما تكون حسية واحيانا انعزالية تامة الا من محددات التخطيط العامة المعاصرة كالطرق الرئيسة أو قوانين البناء كالارتدادات المحيطة بالبناء، ومن هنا فإن هذه الاستقلالية النسبية هي ما يشكل النسيج العمراني الحضري ككل والذي يبدو كمجموعة من الخلايا المحاطة بأحيزة فراغية خاصة والمترتبة ضمن نظام تخطيطي كلي معد مسبقا للمدينة ككل ضمن مخطط هيكلي تخطيطي عام، وفي هذا الاطار تشير مختلف الدراسات التي عنيت بتخطيط المدينة العربية التقليدية إلى هذا الفرق التخطيطي، حيث تصف هذه الدراسات المدينة العربية التقليدية بأنها تتبع النمو (العفوي) والذي ينبثق من أسس عامة للبناء دون الحاجة إلى وجود مخطط هيكلي ملزم كما الحال في المدينة المعاصرة.
ثانيا: النسيج العمراني المعاصر للمدينة العربية المعاصرة بشكل عام يعكس مباشرة ادخال مظاهر العصر الحديث ومن ابرزها (الآلة والسيارة)، ومن هنا فقد اختلف المقياس الذي تعكسه المدينة، اذ بينما عكست المدينة العربية التقليدية ابعاد ومقاييس الانسان ووسائل المواصلات التي كانت اقرب منها للانسان والطبيعة، اعتمدت المدينة العربية المعاصرة عنصر السيارة التي لم تغير فحسب العقلية وآلية التفكير التخطيطي، انما ابرزت العديد من المشاكل والتحديات التي واجهتها المدينة (والتي ليست موضوعنا هنا انما سنعالجها في مقال منفصل)، كذلك فقد اربكت العلاقة المتوازنة والهرمية بين الفراغات العامة وشبه الخاصة والخاصة، وبدلا من هذه العلاقة اضحت المدينة المعاصرة تعاني من قلة الخصوصية أو عدم التوازن بين هذه العلاقات اطلاقا، وإذا أدركنا ما افرزته السيارة من متطلبات احيزة فراغية لم تعهدها المدينة العربية التقليدية كالطرق السريعة والجسور والأنفاق اضافة إلى المتطلبات الاقتصادية للمدينة المعاصرة والتي غيرت مفاهيم البناء وادخلت الابنية العالية سواء اكانت مكتبية ام اسكانية، وإذا دمجنا هاتين الصورتين معا: الجسور ومتطلبات السيارة من جهة والابنية العالية الاسكانية أو المكتبية من جهة أخرى، أمكن لنا حينئذ حجم المشكلة في قلب مفاهيم الحيز الفراغي العام والخاص للمدينة والاعتداء المستحدث على الحيزين الفراغيين الخاص وشبه الخاص.
ثالثا: نتيجة لهذه التغيرات التي دخلت المدينة العربية المعاصرة مع دخول السيارة اليها، فقد أدى ذلك إلى عزلة الانشطة الحضرية عما حولها من الاحيزة الفراغية وبخاصة العامة منها. وتم ادخال الحلول التخطيطية الحديثة لمعالجة هذه المحدثة وذلك بقلب العلاقة بين الحدث العمراني وبين آلية التفاعل معه من قبل المستخدم إذ بينما كانت العلاقة بين الانشطة والحدث العمراني الحضري في المدينة العربية التقليدية أفقية (بمعنى الاتصال المباشر أو ضمن سلسلة متتابعة من الاحيزة الفراغية على نفس المستوى الافقي)، اصبحت العلاقة رأسية بين المبنى والاتصال به في بعض الاحيان وخاصة ان تطلب الاتصال استخدام السيارة للوصول إلى الحدث العمراني وذلك باستحداث طابق تحت مستوى المبنى لوقوف السيارة ومن ثم الدخول للمبنى من ضمن توزيعه الفراغي الافقي، وهذه العلاقة المتباينة يمكن ادراك آثارها على تباين النسيجين العمرانيين للمدينة العربية بين الماضي والحاضر.
رابعا: فيما يتعلق بعنصر المفاجأة الذي كان احد ابرز ملامح التجول في المدينة العربية التقليدية، فإن من الواضح ان المدينة العربية المعاصرة التي تعتمد السيارة كوسيلة نقل سريعة تعتمد اتخاذ قرارات سريعة ومحددة في تحديد الاتجاه للمتجول بالسيارة، وبدأ اعطاء أكبر مجال رؤية ممكن لقائد السيارة، ومن هنا فلا مجال للطريق غير الممتد أو الواضحة نهايته من بدايته، ومن هنا اصبحت البؤر العمرانية البصرية التي كانت ذات مقياس انساني في المدينة العربية التقليدية هي ذات مقاس اضخم وتتطلب احيزة فراغية أوسع حول هذه البؤر البصرية التي غالبا تقع ضمن ميادين وتوصف بأنها بصرية غير ذات استعمال وظيفي في معظم الاحايين، بينما عكست بعض البؤر البصرية كالمئذنة وسبيل الماء في المدينة العربية التقليدية بعضا من جوانب وظيفية، هذه بعض المفارقات العامة التي يمكن ملاحظتها بسهولة والتي تميز بين النظامين العمرانيين للمدينة العربية بين الماضي والحاضر، ولا يظنن احد القراء الكرام ان في هذا المقال دعوة للعودة إلى المدينة التقليدية قلبا وقالبا ونبذ متطلبات العصر الحديث مما قد تحفل به كتب دراسة المدينة العربية التقليدية وتخطيطها، انما هي نظرة تحليلية مقارنة عجلى لا تفي باعطاء حلول تعالج اشكالية الاصالة والمعاصرة للمدينة العربية بشكل عام ويهمنا تاليا التعريج على المسجد الجامع وموقعه في خضم هذا التغير المستحدث للمدينة.
لم يستثن المسجد الجامع من هذه العزلة المحيطية التي فرضتها النظم التخطيطية المعاصرة أو دخول السيارة إلى النسيج العمراني، بل ان هذه العزلة قد فرضت بشكل أكثر دراماتيكية في بعض الاحايين إذ عمد العديد من المعماريين المعاصرين لمعالجة المسجد المعاصر كبؤرة بصرية بالكامل لا كمئذنته فقط كما كان الحال في المدينة العربية التقليدية، وأضحى المشهد حيث نرى المسجد يقبع على تلة منفصلة، أو منعزلا الا من خلال الوصول اليه من خلال السيارة من مظاهر التخطيط الحديثة للمسجد المعاصر.
أما المسجد الجامع المتوسط مركز المدينة فقد كان أكثر حظا إذا احاطته الساحات العامة بيد ان طبيعة استخدام هذه الساحة تتراوح من مدينة لاخرى وغالبا ما ترودها السيارة مما يفرض عزلة نسبية للمسجد الجامع مع الانشطة المحيطة ويفرض الحركة السريعة ويحدد طبيعة استخدام الحيز الفراغي المحيط من جهة ونوعية الانشطة التي تكون ذات طبيعة انتقالية لا حلولية اقامية هذه الاشارة العمومية من خلال هذا المقال وما سبق تصبح ذات دلالة ان تم اسقاطها على حالات دراسية محددة من مدن العالم العربي المختلفة، وهو ما سنسعى إليه في المستقبل القريب.
|