تمثل المقرنصات - وهي عبارة عن مجاميع بنائية مكونة من وحدة هندسية ثلاثية الابعاد - واحدة من أبرز العناصر التي حفلت بها العمارة العربية الإسلامية من خلال المباني المنتشرة على طول ارجاء مدن العالم الإسلامي التقليدية، ويأتي هذا الاستخدام والاختراع الذي تفرد به المعمار العربي المسلم في الحضارة العربية الإسلامية في أوج مجدها كحل بارع ضمن سلسلة من الحلول الأخرى كالخط العربي والزخارف النباتية والهندسية والاعمال الخشبية والجص والموزاييك والزليج أو فن الخزف وغيرها مما تمخضت عنه عقلية المعمار والفنان المسلم، وذلك استجابة لتعاليم الاسلام الناهية عن التصوير أو التمثيل التي حفلت بها الحضارات التي خلفتها الحضارة الإسلامية، وكنتيجة للحاجة إلى تكاملية المباني مع عناصر زخرفية بحيث لا تشكل اضافات للمبنى انما تكون جزءا من التكوين الوظيفي والانشائي في بعض الاحيان كانت المقرنصات أبرز العناصر المستخدمة في البناء والتشييد في فترة اوج الحضارة العربية الإسلامية التي لا تزال ماثلة إلى هذا اليوم.
وقد برزت الحاجة لاستخدام المقرنصات بشكل ملح، وذلك حين واجه المعمار المسلم مشكلة انشاء القبة - والتي هي دائرية الشكل في مسقطها الافقي- فوق الحيز الفراغي مربع الشكل. ومعلوم هندسيا ان اقامة القبة دائرية الشكل فوق الفراغ المربع تترك زوائد مثلثية على جوانب المربع الاربعة التي لا تغطيها القبة دائرية الشكل، وبرزت الحاجة للتفكير الابداعي لايجاد حل وظيفي يعالج مشكلة تغطية الزوائد الفراغية من جهة، ويشكل ناحية فنية من جهة أخرى. فكان ان تفتقت عقلية المعمار المسلم الابداعية عن هذا الحل المتميز، فابتكر وحدة هندسية ثلاثية الابعاد غالبا ما تحوي تجويفا قوسيا، واخذ يكررها لملء التجويف بين المربع وقاعدة القبة الذي يأخذ شكل مثلث فراغي ثلاثي الابعاد، وهكذا كان عليه ان يستخدم أعدادا أكبر من هذه الوحدات الهندسية كلما ارتفع البناء باتجاه القاعدة التي تجلس عليها القبة ، ومن هنا فقد كانت هذه التشكيلات الانشائية الجميلة وظيفية أيضا إذ كانت تحمل القبة من ناحية أخرى. (انظر الصور)
ولم تقتصر هذه الابداعات التي أبرزتها العقلية الابداعية للفنان والمعماري المسلم على تكرار هذه الوحدات انما شكل تكرارها لوحات فنية زخرفية تشكيلية رائعة للناظر إليها من الاسفل باتجاه القبة، وكذلك فقد أضاف إليها الفنان المعماري المسلم بعضا من لمسات دراماتيكية بالتحكم بإدخال النور اليها من خلال فتحات النور التي تحيط بالقبة نفسها، ونظرا لطبيعة التكوينات ثلاثية الابعاد بها، فقد اضفى عامل الظل والنور اليها بعدا رابعا هو بعد الزمن من خلال أوقات النهار المختلفة اضافة لابراز اجزاء منها واخفاء أجزاء أخرى من خلال سقوط الظل عليها.
ولم يقتصر هذا الاستخدام للمقرنصات على ملء الفراغ بين الحيز الفراغي المربع الشكل الذي تجلس عليه القبة وبين القبة دائرية الشكل انما اسخدمت المقرنصات ايضا في اية فكرة تتطلب نقلة من شكل هندسي لآخر ومعالجة الفراغ الناشىء عن هذه النقلة الهندسية. لذلك يمكن ملاحظة ان المعماري المسلم قد استخدمها فوق البوابات الرئيسة أو مداخل المباني المهمة أو الفتحات التي تجسد نفس الفكرة اي بكونها مربعة أو مستطيلة الشكل ومن ثم انتهاؤها بشكل نصف دائري. وهكذا أثبت الفنان المسلم ان الفن والمعمار يمكن ان يعكس الابداع الذي ينبثق من تعاليم الحضارة ذاتها ودون اللجوء للاقتباس أو النقل الحرفي الاعمى من الحضارات الاخرى مما قد لا ينسجم وتعاليم الدين أو يخالف الاعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة.
|