يخوض الإسلام في هذه المرحلة معارك مع الغرب على مختلف الأصعدة، ويشن علماؤه ومثقفوه حملات فكرية مرجعيتها «الأخلاق» والمثل الإنسانية التي جاء بها الإسلام، تضع الغرب المهيمن في موضع الظالم، وغير العادل، ومن يقول ما لا يفعل..،
ولا يجد الداعية أو المثقف المسلم صعوبة في إيجاد أدلة على ذلك، بدءا من زعم فوقية «النسل» اليهودي السامي، ومروراً بتطبيقات المد الأصولي البروتستانتي الأبيض والمتمثلة في قرارات مجلس الأمن وحق الفيتو غير الأخلاقي، وازدواجية تطبيقاته على أرض الواقع، وانتهاء برفض الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا الرضوخ لقانون أخلاقي جنائي يحاكم مجرمي الحرب ..
وما القانون الجديد الذي وافق عليه مجلس الشيوخ الأمريكي الذي يعطي أمريكا حق التدخل بالقوة العسكرية لدى هولندا إذا قدمت محكمة جرائم الحرب الدولية «مواطناً أمريكياً» للمحاكمة، إلا خير دليل على سقوط مرجعيتهم الأخلاقية..،وتبرز أيضا قضايا فصل المحجبات من المدارس الفرنسية والسنغافورية، وكذلك التركية كأدلة وحجج على فشل تلك المرجعية «الموضوعية والذاتية» في تطبيق مفاهيم الأخلاق الإنسانية من خلال هذا الواقع، تداعت الأصوات الإسلامية للتنديد بمرجعية الغرب غير الأخلاقية، التي ظهرت بكل وضوح في بيانات المثقفين المسلمين، المنفردة منها والجماعية ..
كتب الشيخ سفر الحوالي في بيانه: «عن أي شيء ندافع» الذي نشر في موقع مجلة العصر الإلكترونية في 16 صفر 1423ه «ليس هناك ما هو أسوأ من انتهاك القيم الأخلاقية كالحرية والسلام إلا أن تكون النخبة التي يفترض أن تكون حامية لهذه القيم أداة طواعية للاستبداد والعنف.. وليس أسوأ من الساسة الذين يزجون بشعوبهم في سعير العداوات والحروب، إلا المثقفين الذين يبررون لهم ما يفعلون».
تأتي أهمية دور المثقف أو المصلح في بيان سوء عاقبة الخروج عن مجتمع القيم والأخلاق الحميدة في المعاملات السياسية والاجتماعية، ويبقى للقنوات الرسمية مهمة حماية المتضرر من عاقبة الخروج عن القانون أو الشرع المرتبط بمرجعية «القيم».
فالإسلام يطرح مفهوم الاستقامة والأخلاق مقابل مفهوم الموضوعية والذاتية الذي يطرحه الفكر الغربي .. «رأيته يأمر بمكارم الأخلاق» .. ويعتمد المنهج الذي يستند إليه التدبر في كل من العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية من جهة، على فقه للموازنات بين المصالح، وبين المفاسد والمصالح إذا تعارضت، كما يرتكز من جهة أخرى على فقه الأولويات الذي يستند على فهم للواقع وإدراك مقاصد الشرع، معتمداً في ذلك على قواعد علم أصول الفقه.
الاستقامة ومرجعية الأخلاق في المعاملة تعبير عن الوسطية الإسلامية، وهي كمفهوم ترتبط في الخطاب القرآني بمفاهيم العدل والإيمان والأمانة والشهادة، ويميز منهج «الصلاح والاستقامة» عن «الموضوعية» التي تدَّعي استقلال العلم أو السياسة أو الحياة الاجتماعية والمصالح الذاتية عن الأخلاق والقيم، ربطها بين الأخلاقيات والمعاملات التي تحكم الحياة.
وأرى أن تطبيقات الرؤية الإسلامية الإنسانية في معركة الأخلاق مع الغرب أولى بها مناخ المعاملات الوطنية، وكم تمنيت أن أقرأ بياناً للرموز والعلماء المختصين موجه للجماهير الحائرة بين اجتهاد يفرض «البغضاء» على أساس طائفي، وبين تيار إصلاحي يرعى التوجه الأخلاقي المتسامح عند التعامل مع الآخر المسالم، أو الجزء الذي لا يتجزأ من «الأنا الوطنية» مهما حاول البعض استئصاله أو عزله.
أدرك جيدا صعوبة المهمة في ظل البعد عن منهجية الحوار الجريء وتطبيقات الشفافية في الطرح الدعوي والثقافي على الساحة الإعلامية.
ولكن ما صدر في بيان المثقفين السعوديين، «على أي أساس نتعايش»، الذي وقعه مائة وثلاثة وخمسون مثقفاً سعودياً، من دعوة إلى الاحتكام إلى العدل والأخلاق في إدارة الصراع ينبئ بمستقبل أكثر تسامحاً، وأقل تنافراً على المستوى الاجتماعي والثقافي الوطني والإنساني. كان ضمنيا يقدم أهمية وحدة الصف الوطني على «وحدة الرأي»، وهي خطوة رائدة في طرق إدراك أهمية الوعي الحضاري بالمرحلة.ورد في بيان المثقفين السعوديين التالي:
« يفترض أن ندعو جميعاً لمشروع حوار نقدمه لعالمنا تحت مظلة العدل والأخلاق والحقوق، مبشرين العالم بمشروع يصنع الخير والأمن له».
وجاء في فقرة أخرى:
« إن الاستقرار أساس الحقوق والحرية في العالم، وحين نحرم الناس من الاستقرار ونفرض عليهم أن يعيشوا في دوامة من القلق والقهر والضيم فإنهم قد يتصرفون بطريقة غير أخلاقية، والواقع المرّ هو الذي يصنع القرارات، بل هو الذي يصنع الفكرة أحياناً.
وحين ينتظر الناس طويلا قبل أن ينالوا شيئا من حقوقهم فمن المرجح أنهم سيتصرفون في فترة الانتظار بطريقة يصعب التنبؤ بها أو تقدير عواقبها».مقاصد سامية تستدعيها الضرورة الوطنية قبل الاستراتيجية الخارجية ..
|