من المعلوم لدى الباحثين في ميدان التاريخ أن بعض المناطق أوفر حظاً من البعض الآخر من حيث تدوين تاريخها وتعدد مصادره لما لهذه وتلك من ظروف معيَّنة، ومناطق الجزيرة العربية لا تخرج عن هذه القاعدة العامة، فبعض مناطقها، مثل الحجاز واليمن، حظيت بعناية المؤرخين في عصور مختلفة بدرجة لا بأس بها.
وذلك لما للحجاز من مكانة رفيعة في نفوس المسلمين، ولما ظهر في اليمن من علماء اهتموا بكتابة تاريخ بلادهم. وبعض مناطق الجزيرة العربية، وبخاصة منطقة نجد التي تمثل قلب هذه الجزيرة أصدق تمثيل من الناحية الجغرافية، لم تحظ بمثل تلك العناية للظروف التي مرت بها.
لقد كانت نجد مسرحاً مهماً شهد كثيراً من أيام العرب، حرباً وفروسية، كما شهد كثير من أسواقهم، تجارة وأدباً، وكان هذا وضعها قبل البعثة النبوية التي أتت بالوحي لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولما قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة ازدادت الحجاز شرفاً ورفعة، ثم انطلقت جيوش المسلمين إلى خارج الجزيرة العربية تنشر كلمة التوحيد ومبادئ العدل. وكان عرب الجزيرة عماد تلك الجيوش.
وكثير من أولئك لم يعودوا إلى مواطنهم، وإنما نال الشهادة من نالها، واستوطن البلاد المفتوحة من استوطن. وانتقلت قاعدة الدولة الإسلامية من المدينة إلى الكوفة وإن بشكل مؤقت جداً ثم إلى دمشق، ثم إلى عواصم أخرى، وبقيت قدسية المسجد الحرام بمكة ومكانة المسجد النبوي في المدينة تحفظان للحجاز ما تستحقه من عناية خلفاء المسلمين وسلاطينهم، وبالتالي عناية المؤرخين واهتمامهم.
أما منطقة نجد فبقيت أبعد ما تكون عن مثل تلك العناية وهذا الاهتمام.
والمتأمل في تاريخ نجد عبرالقرون، ابتداء من نهاية العصر العباسي الأول الذي اشتهر حكامه بالقوة النسبية، وانتهاء بالقرن الثاني عشر الهجري الذي شهد ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وما ترتب عليها من تغيرات، يجد أن هذه المنطقة كانت تعيش في شبه فراغ سياسي، ولعل هذا الوضع هو الذي هيأ لمحمد بن يوسف العلوي الملقب بالأخيضر أن ينجح في إقامة دويلة زيدية المذهب في إقليم اليمامة المشتمل على وسط نجد وبعض أجزائها الجنوبية، وذلك عام 252هـ.
واستمرت الدويلة التي أقامها متوارثة في نسله فترة اختلف الباحثون في طولها.
وعندما زار الرحالة ناصر خسرو اليمامة عام 442هـ، وجد المذهب الزيدي مازال متبعاً هناك، على أن بقاء المذهب لا يعني بالضرورة بقاء الدويلة التي نشرته، ذلك أنها تكبدت خسائر فادحة على أيدي القرامطة أيام عنفوانهم مما يرجح أنها إن لم تنته سياسياً وعسكرياً فإنها قد ضعفت ضعفاً شديداً بحيث أصبح وجودها غير مؤثر في سير أحداث المنطقة.
وعلى أية حال فإن نجداً أصبحت مفككة سياسياً من القرن الخامس الهجري إلى أن وحدت أقاليمها الدولة السعودية الأولى مع نهاية القرن الثاني عشر، وكان من آثار ذلك التفكك انتشار الجهل، ومن هنا فإن الباحث في تاريخها خلال تلك الفترة يجد صعوبة في وصل بعض حلقاته مع البعض الآخر، ومن بين الخيوط الأولى التي يجدها ما عثر عليه من وثائق كتبها عدد من علماء المنطقة في القرنين الثامن والتاسع من الهجرة مع قلة أولئك العلماء وندرة ما بقي من كتاباتهم، ولقد شهد القرن العاشر زيادة في أعداد العلماء، وكان من أبرز هؤلاء إن لم يكن أبرزهم، الشيخ أحمد بن عطوة المتوفى سنة 948ه، الذي درس في دمشق، والذي يمكن أن يعد موطد المذهب الحنبلي في نجد، وما أثر من فتاواه يلقي ضوءاً على جوانب من حياة المجتمع النجدي حينذاك.
أما الكتابة التاريخية لدى النجديين فلم تحدث إلا في القرن الحادي عشر الهجري، وكان أول مؤرخ نجدي الشيخ أحمد بن محمد البسام «الوهبي التميمي» المتوفى سنة 1040هـ، ومن الجدير بالذكر أن أكثر من نصف علماء نجد من القرن العاشر إلى منتصف القرن الثاني عشر قد ولدوا في أشيقر وتعلَّموا فيها، وأن بعضاً من غير المولودين فيها قد وفدوا إليها لتلقي العلم على مشايخها، وأن أكثر من نصف العلماء النجديين في الفترة المذكورة ينتمون إلى آل وهبة وهو فرع آل مشرف أسرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهذا يدل على أن بلدة أشيقر كانت حينذاك مركزاً علمياً في منطقة نجد، وأن آل وهبة، بصفة عامة، وآل مشرف، بصفة خاصة، قد احتلوا مركز الصدارة العلمية في هذه المنطقة.
ومن الجدير بالذكر، أيضاً، أن عدد علماء القرن الحادي عشر يقرب من ضعف عدد علماء القرن الذي سبقه، وأن عدد علماء النصف الأول من القرن الثاني عشر يقرب من مجموع عدد علماء القرن الحادي عشر، وهذا يوضح أن الحركة العلمية في نجد كانت قبل ظهور الشيخ محمد بن عبدالوهاب في تقدم مستمر.
أعود إلى موضوع الكتابة التاريخية لأقول: إن ما كتبه أحمد بن بسام كان تقييدات مختصرة جداً لحوادث وقعت في نجد بين عامي 1015 و1039هـ، وبعض هذه التقييدات تبدو، وكأن المراد بها ذكر تاريخ الحادثة فقط لمن يعرف الحداثة ذاتها ولا ينقصه إلا معرفة زمن حدوثها، مثل أن يقول: في سنة كذا ذبحة آل فلان دون ذكر من قتلهم، أو سبب القتل أو مكانه، وكان الشيخ أحمد المنقور المتوفى سنة 1125هـ ممن أفاد من تقييدات البسام وأضاف إليها تقييدات أخرى لحوادث لاحقة.
ولقد فصل أكثر الحوادث التي أشارت إليها التقييدات المذكورة مؤرخان نجديان فيما بعد، وهما عثمان بن بشر ومحمد الفاخري اللذان عاشا في القرن الثالث عشر الهجري بل إن المؤرخ النسابة إبراهيم بن عيسى المتوفى سنة 1343هـ ألف نبذة صدرت بعنوان تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، مبتدئاً بسنة 700هـ ومنتهياً بسنة 1340هـ، غير أن الحوادث التي أشار إليها غير متوالية، وعاصر ابن عيسى مؤرخ آخر هو عبدالله بن محمد البسام، المتوفى سنة 1346هـ، مؤلف تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق، وقد بدأ تاريخه بتمهيد أشار فيه إلى وقائع مهمة على امتداد التاريخ، ثم بدأ المراد من تأليفه بذكر ما حدث عام 850هـ، وهو العام الذي بدأ فيه ابن بشر والفاخري تاريخيهما، واستمر في ذكر الأحداث إلى سنة وفاته، وفي تاريخه ذكر لحوادث نزاع بين القبائل في نجد وما يليها شرقاً وشمالاً لم تذكرها المصادر المتوافرة، ولم يعزها إلى أي مصدر.
على أن النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري شهد كما هو معروف ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب التي غيرت وضع منطقة نجد، دينياً وسياسياً. فلقد تبنى آل سعود، أمراء الدرعية، تلك الدعوة التي أصبح التوحيد ببعديه الديني والسياسي قضيتها الجوهرية، ولقد أفادت الدعوة من ذلك التبني بإتاحة فرص انتشارها، وأفاد آل سعود من تبنيهم لها بإتاحة فرص اتساع حكمهم، وقد انبرى من لديهم القدرة على الكتابة التاريخية لتسجيل تاريخ تلك الدعوة وتفصيلات حياة صاحبها، وتدوين ما قام به أنصارها من جهود لنشرها وتوحيد سكان المنطقة تحت راية ما نادت به.
وكان ممن كتب عن أولئك الأنصار كما ذكر ابن بشر محمد بن علي ابن سلوم، الذي ولد في العطار بسدير سنة 1161ه، ولأنه كان من المعارضين لدعوة ابن عبدالوهاب ارتحل من نجد إلى الأحساء حيث درس على الشيخ عبدالله بن فيروز، الذي كان هو الآخر معارضاً لتلك الدعوة، ولما أوشكت الأحساء أن تقع في أيدي آل سعود، مع بداية القرن الثالث عشر الهجري، رحل الاثنان منها إلى البصرة، ثم توفي ابن سلوم في سوق الشيوخ عام 1246ه. على أن ما كتبه ابن سلوم ما زال مفقوداً، ومعرفة الباحثين بمضمونه معتمدة على ما ذكره عنه ابن بشر، إذ قال «ج1، ص16»:
«إلا أني وجدت لمحمد بن علي بن سلوم الفرضي الحنبلي إشارات لطيفة في تتابع السنين ورسم وقائع كل سنة بما لا يفيد، ولا حقق تحقيقاً للوقائع ومواضعها ينتفع به المستفيد. بلغ في ترسيماته إلى قرب موت عبدالعزيز بن محمد بن سعود».
وتقليل ابن بشر - رحمه الله - لأهمية ما قام به ابن سلوم ليس أشد إيلاماً من تقليله لأهمية ما قام به العالم المؤرخ حسين بن غنام، الذي هو وتاريخه الموضوع المتحدَّث عنه في هذه الندوة، فمع أن ابن بشر قد نقل عن ابن غنام نقلاً واضحاً حرفياً، حيناً، ومضموناً حيناً آخر فإنه لم يذكر لمن نقل عنه تاريخاً، بل إنه بعد أن ذكر ما ذكر عن ابن سلوم قال:
ثم وجدت، أيضاً، ترسيمات السنين لغيره أحسن من رسمه متصلة به »، ولم يذكر اسم صاحب هذه الترسيمات وإن كان يتضح من المقارنة أنه قصد ابن غنام.
فمن هو ابن غنام؟ وماذا عن تاريخه؟
هذا وذاك سيكونان موضوع الحلقات القادمة.
|