كنت على موعد مع ذكرى حميمة شهدَ وقائعَها (مجلسُ الأمير) بمتحف قصر شدا بمدينة أبها منذ زمن بعيد، فقد دعاني صديق ذات مساء رمضاني جميل قبل بضع سنين لزيارة ذلك المعلم التراثي الذي يقف في شموخ وسط المدينة مطرزاً برموز الماضي: تاريخاً وتراثاً، وكانت سعادتي بتلك الزيارة لا ينافسها سوى شعوري بهيبة المكان وشفافية الذكرى التي ينطق بها كل شبر في ذلك المبنى العتيد.
***
الفيتني بلاوعي استسلم لهاجس الذكرى متأثراً بشواهد مألوفة لي في ذلك المتحف، فهذا (وتا) لجلب الماء في البئر، وذاك (مدسم) لتسوية الارض بعد الحرث، وهذه (مرجمة) لحماية محصول الارض من عبث العصافير، وتلك (طفَشَة) للوقاية من وهج الشمس، وذاك (مخْطاف) لاستعادة (الغرب) أو (الدلو) من غياهب البئر، ونحو ذلك.
***
ويقلع بي شراع الذكريات بعيداً جداً في رحلة عذبة، وأنا أتأمل العديد من المعروضات المعبرة عن حال انسان تلك الارض في مختلف مراحل حياته، وفجأة أجدني مع مضيفي وسط «مجلس الأمير» بالدور الثاني من القصر، فتتسمر قدماي، وتتسارع انفاسي متأثرة بحضور الذكرى الخاصة بهذا المكان، ويستعيد الخيال صورة من صور الأمس البعيد، حين جئت إلى المجلس نفسه ذات يوم قبل نحو أربعة عقود متظلماً، وكنت يومئذ في نهاية العقد الأول من عمري، وكان طيب الذكر الأمير تركي بن أحمد السديري - رحمه الله - أميراً لمنطقة عسير، وشُبِّه لي في لحظة من ضحى ذلك الأمس البعيد وأنا أدلف إلى مجلسه الكبير أن الحيطان تتنفس بهيبته رحمه الله، وأن الطريق اليه طويل طويل جداً، ورحت اتابع السير نحوه وقلبي الصغير يخفق رغبة ورهبة، وابلغ موقعه على المنصة أو «الدبب» في صدر المجلس، وكان رحمه الله محاطاً ببعض مسؤولي الامارة، وينظر إلي في حنان بعد أن عرفته بنفسي، ويتناول مني رقعة مكتوبة (عريضة) كنت قد التمست من أحد معارف سيدي الوالد رحمه الله، اعدادها نيابة عني، لأنني لم أكن وقتئذ أحسن الكتابة!
***
قرأ الأمير الرسالة حتى أتى عليها، ثم نظر إلي مبتسماً وهو ينقل بصره بيني وبين الورقة، قبل أن يسلمها إلى كاتبه، قال لي: «اذن، فأنت تريد أن تلحق بوالدك في مدينة الطائف»: قلت: وانا اتحفز لسماع المزيد منه، (نعم، طال عمرك)، ويمنحني الأمير المهيب الاذن بالسفر شرحاً على رسالتي، وانطلق من مجلسه اعدو عدواً إلى خارج القصر، حيث كانت سيدتي الوالدة رحمها الله تنتظرني وسط مشاعر مضطربة بين رغبة في بقائي معها، واخرى لتحقيق حلمي بالانضمام إلى سيدي الوالد في الطائف، واكمل السير إلى حيث تربض سيارة بريد تابعة ل(الشركة العربية للسيارات) كانت تزمع على الرحيل عصر اليوم نفسه إلى مدينة الطائف، واتوجه صوب الجندي المكلف بحراسة السيارة لاطلعه على فحوى (أمر الاركاب) الذي منحني اياه الأمير، وقد اكتسى صوتي نشوة الظفر على ذلك الجندي الذي نهرني أول النهار بحجة انني قاصر، ولا يمكنني السفر، كنت فرحاً رغم حزني المكبوت على فراق سيدتي الوالدة، وكنت اسليها واسرِّي عنها بالقول إن الطائف قريبة المنال!
استعدت انفاسي المسافرة في لجة الذكرى، على صوت مرافقي في المتحف وهو يهتف بي قائلاً: يبدو أن التأمل قد رحل بك عنا بعيداً، ولكن قل لي: هل لهذا المكان ذكرى خاصة؟! فرحت اسرد على سمعه قصة لقائي بالمرحوم الأمير تركي السديري في ذلك المجلس الذي انتهى ب(أمر اركاب) في سيارة البريد إلى الطائف.
ولاحظت أن محدثي كان يغالب الدمع والابتسام معاً، وهو ينصت إلي!
وتمنيت في تلك اللحظة لو أن جدران المجلس تملك النطق لتروي لي ولمن معي وقائع ذلك اللقاء!
|