لطالما سالت الأقلام حتى تبعها الدَّمُ، وبحت الحناجرُ حتى علا عليها السلاح، ودارت نقاشاتٌ حتى امتدت الأيدي، وبلغ التفكيرُ ثمالته، حول موضوع شائك مركَّبٍ هو تأخر الدول العربية عن ركب التقدم العلمي والحضاري. وغالبية الطروحات تختزل الأزمات في أزمةٍ، ثم تمعن في الاختزال فتحصرها في فكرة النظام السياسي، وفي تآمر العدو الأجنبي. ويتطارح الجدل في تفريعات الأنظمة خطلها وصحيحها، وفي دهاليز المؤامرات الأجنبية واقعاً كانت أم محضَ خيالٍ خصب، ولا يتعدى ذلك إلى ما هو أعمق إلا فيما ندر.
ويصرح كثير من المتجادلين بالحل الجامع المانع الناجز، وهو مبادئ سياسية وشعارات سامية عامة. هذه المبادئ تُلقى سراً أو جهراً كيفما اتفق، وعلى الدولة أن تأخذ بها، فإن عصت تكون ضالةً عن المسلك المنقذ. وهذه المبادئ قد تكون سليمة بحد ذاتها، ولكنها بلا برامج عمل، ولا تعدو كونها مبنى نظري بلا معنى تطبيقي، يلفظها الواقع ويمضي مدلهماً، ونحن نعود القهقري لنلملم شعاراتنا من جديد، نحسن من صورتها لا من مضمونها وامكانية تطبيقها، وإذ بالواقع يتجاوزنا، فنزداد بعداً على بعدٍ عن حضارة العلم المتقدم.
ولستُ بزاعم أن الحكومات لا تدخل كجزء من الأزمة، فهذا دأبها منذ عُرف التاريخ. إنما أزعمُ أن المجتمعات العربية، بصورة عامة، جماعات بسيطة، ألفت قروناً تسيسها حكومات غريبة، من الأتراك ثم الاستعمار الأجنبي، وعندما استيقظت مع فجر الاستقلالات أو فورة الانقلابات العسكرية، وجدت نفسها رهينة التجربة الضحلة في القيادة، فغدت كمراهق يعتد بجسده البالغ القوي ولكنه يفتقر إلى حسن الآداء ويرفض توجيه المجربين وخبراتهم.
ولا أدَّعي أني أرى حلاً ناجزا لهذه الدوامة، فأنا زاهد في البحث عن الحلول، ناهيك عن أن أكون أعجز عن أن أطرح مفاتيح حلٍّ لأزمات شائكة تنخر في مفاصل مجتمعاتنا منذ أمد بعيد. وإنما أطرح افتراضات تشخيصية وصفية كقطرة هادئة من بحر هذا الجدل المتلاطم.
أتصور أن أزمة الدول العربية في عدم اللحاق بالركب العالمي المتقدم علمياً، هي أزمة بنيوية جوهرية في ذات المجتمعات. والحكومات جزء لا يتجزأ من داخل هذه المجتمعات وليس من خارجها. وفي تقديري أن جوهر الأزمة هو في افتقار مجتمعاتنا العربية لثلاثة أنماط حضارية «سلوكية ومعيشية»، وهي: التنظيم، الاحتراف، وتنوع الرأي. وفي هذه الأنماط أرى أنه ينبغي أن ينصب الجهد والإبداع، واقتراح البرامج، ومحاولة التطبيق، وفقاً لمعطيات علمية منهجية وطموحات واقعية.
إن كلمة السر في التقدم الغربي كما يبوح بها الغربيون أنفسهم هي «التنظيم».
المجتمعات العربية يعوزها التنظيم الحديث، الجاد والفعال، بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي بدورها يلزمها شبكة من الهيئات والجمعيات التي تُسيِّر دفة المجتمع، توظف الطاقات وتوحِّد الجهود في محلها. وهو تنظيم على مستوى الفرد من تحديد أهدافه إلى تنفيذها. وتنظيم على مستوى العائلة من ترتيب أوضاعها إلى مشاركتها في العقد الاجتماعي العام. وتنظيم على مستوى العمل من معرفة المهام والواجبات والحقوق إلى اتخاذ القرارات المصيرية. وتنظيم مؤسسات المجتمع المدني التي تحتضن الطاقات المبدعة وتدافع عن الحقوق وتشارك في الحياة العامة.
ونحن نفتقر إلى الاحتراف من عمال مهرة وفنيين محترفين، وموظفين أو إداريين ذوي كفاءة اختصاصية، ومستشارين ضالعين. فمن عامل الورشة الذي كان مزارعاً، ومن موظف الأرشيف الحاصل على شهادة تقنية إلى الخبير الذي ليس له من الخبرة سوى عامل زمني فارغ ومكرر. وفي أحسن الأحوال، حين يتطابق التخصص مع الوظيفة يكون تطابقاً شكلياً، حيث لا يمارس المتخصص إلا مهارات مبدئية في مجاله.
ونفتقر أيضا إلى الحد الأدنى من حرية الرأي، التي تبدأ على مستوى القاعدة، فالأب مستبد برأيه الأوحد في المنزل، والمدرس دكتاتور في الفصل، وعلى الابن والتلميذ تنفيذ الأوامر دون مناقشة أو إعمال الفكر. هنا تُبنى اللبنة الأولى لضيق الأفق والتعصب، وهذه اللبنة قد يستعصي اقتلاعها فيما بعد. سيكون من اليسير على الاستبداد أن ينمو، وسيغدو من السهل إقصاء الآخر وتثبيط الملكات والمواهب. سيكون من العسير الاعتراف بالأخطاء أو اكتشافها، ناهيك عن استشرافها وإبداع الحلول.
إنها معضلة متراكمة تاريخياً ومتشابكة حضارياً، أزمات في غاية التعقيد يتم تبسيطها بالحُكَّام وبالأجنبي. كأن الحاكم قدم من كوكب آخر، وكأن الأجنبي الخصم يراد منه أن يصبح ملاكاً. نحن نحتاج إلى التأمل في أزماتنا والاستئناس بتجارب الآخرين وإلى التبصُّر في الأحداث للوصول لسياسة حصيفة، وتنظيم ذلك كله تحت إدارات محترفة تُبجل المواهب ولا تقمعها. المجتمعات العربية حديثة على السياسة المعاصرة وتعقيداتها المكيافيلية.. نحن أمة تحتاج درساً جديداً في التاريخ!.
|