انتهت الحرب الباردة وغاب الاتحاد السوفيتي عن المسرح الدولي، فتمخضت حالة انتصار ديموقراطية الليبرالية الغربية عن تماوجات فكرية. وفي خضم البحث عن فكرة ملائمة للزمن الجديد، في ظل أجواء العولمة وأدبيات ما بعد الحداثة، ران على الذهنية الغربية في جانبها اليميني هواجس نكوصية على العولمة، وذعر من انصهار الحضارة الغربية في بوتقة العالمية ومن ثم فقدها لخصوصيتها وتفوقها، فانبثق مفهوم قديم نائم هو صراع الحضارات فمن أيقظ هذا المفهوم؟ وماهي أطروحته؟ وكيف جادلها مفكرو العالم؟
مهندسها هو أستاذ الفلسفة في جامعة هارفرد المفكر ذائع الصيت صموئيل هونتنجتون. يقول عنه المفكر السويسري المشهور جان زغلر: «أعرفه وسبق أن تناقشت معه طويلاً.. إنه مخترع مخطط «فينيكس» في فيتنام، خطة تعتمد على قتل المدنيين وضرب البنى التحتية للفيتكونغ.. وهو رجل شديد الذكاء لكنه يستخدمه في غير موضعه الإنساني.. وينتمي إلى نخبة تعمل لحساب السيطرة الأمريكية.. أما الكُتَّاب الأمريكيون أتباعه الذين يروجون لصراع الحضارات مثل فالاتشي أو بيرلوسكوني فمستواهم العلمي والفكري ضعيف ولا يمكن مقارنتهم بقدرته الفذَّة».
في مقالته عام 1993 التي تحولت إلى كتاب في 1996 الموسومة بصراع الحضارات مرفقة بعلامة استفهام، افترض هونتجتون ان نهاية الحرب الباردة هي بداية صراعات عالمية ستنشأ من اختلاف الحضارات، مستنداً إلى ان لكل حضارة خصوصيتها التي تتميز بها، وأهم خصوصية لكل حضارة هو أساسها الديني. هذه الأطروحة، كما يراها المحللون، يكتنفها شيء من الغموض المنهجي والتعميم المضلل، فقد ميَّز بين ست أو سبع حضارات، أهمها في نظره ثلاث: الحضارة الآسيوية (الصين واليابان وشرق آسيا)، والمجموعة الغربية (شمال أمريكا وغرب أوروبا) ثم المجموعة التي تنتمي للعالم الإسلامي. متوقعاً أن صدامات المستقبل ستكون بين الغرب ضد البقية بمقولته المشهورة، كما أطلقها بالانجليزية بجرس ذي رونق سجعي (the west versus the Rest) ورأى أنه من خلال هذه التوقعات التصادمية ينبغي ان تحدد منطلقاتنا «نحن»، بل وحتى توجهات السياسة الخارجية للحكومات الغربية. المشكلة في رؤية هونتجتون أنها تعبر عن «النحن» وكأنها متجانسة تماماً، دون مراعاة الاختلافات من تفاوتات طبقية، منطقية، جنسية، أيديولوجية.. ناهيك عن التعليمية التربوية.
يقول المفكر التركي بيناز توبراك إن مقالة هونتجتون أنعشت الراغبين في كبش فداء. وعلامة الاستفهام التي وضعها في عنوان مقالته أسبغت عليها صفة علمية اجتماعية، ولكنه أراد إعطاء المشورة لصانعي السياسة الغربية: التعاون مع الدول المشبعة بالحضارة الغربية، المحافظة على التفوق العسكري، استغلال التناقضات بين بقية العالم. ويدلف توبراك مفصلاً، صحيح ما يذكره هونتجتون من ان القروي في جنوب إيطاليا يشارك مواطنه في شمالها نفس الثقافة الشعبية، ويختلفان عن القروي في ألمانيا، ولكن الصحيح أيضاً ان المثقف الإيطالي والألماني يشتركان في قيم ثقافية واحدة. القرويون وسكان البلدات الشعبية في حوض شمال المتوسط من أتراك، يونان، طليان، إسبان كلهم لديهم حضارة متوسطية مشتركة من زراعة الزيتون وصيد السمك والبحرية إلى شرف العائلة رغم ان بعضها يدين بالإسلام والبعض بالمسيحية الأورثوذكسية والآخر بالكاثوليكية.
لكن هونتجتون يتصور ان السبب السابق لصراع الدول، أي الاقتصاد والمصالح، لم تعد هي المحركة للمعارك، ويضرب مثلاً بحرب الخليج، فأمريكا قادت الحرب للدفاع عن بعض الأقطار العربية ضد عدوان عرب آخرين، ويرى ان هذا التدخل قد أملته قيم الحضارة الغربية الإنسانية ضد العدوان ومع حق الدول في البقاء، رغم ان القاصي والداني -حسب تعبير توبراك- يدرك ان أمريكا تدخلت لحماية مصالحها النفطية.
وبمراجعة أطروحة هونتجتون بعد عقد من انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن التشابكات المعقدة وتداخل الحضارات يمكن إدراكه عبر النظر أبعد من الدولة- الأمة، كما أشار الكاتب عزيم ناجي. لم يعد يُنظر للحضارات كوحدة حجرية متراصة، بل بمدى أوسع عبر مساهماتنا الحضارية المشتركة للميراث الثقافي البشري. ويرى استاذ العلاقات الدولية في جامعة كوينزلاند البروفيسور روستيا ديليوس ان هونتجتون صرح بشكل أخرق على الطريقة الأمريكية عن صراع الحضارات، مما يمعن خطأً في تكريس العسكرياتية حول التنافس الحضاري واستخدامها كتضليل وكتعريف عبثي مضلل للجماعات الحضارية..
وهنا أستميح القارئ عذراً، فعند استعراضي لفرضية مثيرة للجدل دأبت ان أسوق أراء مؤيديها ومعارضيها، ولكن بعد بحثي في المصادر الغربية لم أجد من المؤيدين كاتباً يعتد به، وربما ذاك يعود إلى تحفظ المؤيدين المهمين، خجلاً مما تثيره فكرة صراع الحضارات من انحطاط كما يبدو. وربما هذا ما جعل فرضية الصراع الحضاري تتوارى بين رفوف المكتبات. إنما أحداث 11 سبتمبر العام الماضي، ايقظت الفتنة وأعادت النظر لهذه الفرضية وأنعشتها. وفي هذا السياق يشدد الفيلسوف الفرنسي جان بودريار: بأنه لابد من الاعتراض على تعبير صراع الحضارات الذي تردد بعد 11 سبتمبر لأن هذه الأحداث لم تكن تعبيرا عن مواجهة بين حضارتين، وإنما عداوة بين ثقافة عظمى لا مبالية بأوجه التمايز والثقافات المختلفة.. وينبهنا المحللون، أنه مما يدحض فرضية هونتجتون، أننا حتى هذه الساعة لم نشاهد صدامات حضارية عالمية بل كانت بين مجموعات صغيرة فرعية أو ناشزة عن سياقها الحضاري وبين قوى عظمى.
إن التركيز الحالي على الاختلافات بين الإسلام والغرب باستخدام الصورة المقولبة مثل الهجمات الانتحارية تتجاهل العديد من القيم المشتركة والمصالح المتبادلة التي تخدم البشرية جمعاء. فهل يمكننا القول إنه صراع عبثي نتيجة عدم التفاهم وتقديم الكره على المحبة، من قبل فئات طارئة على الحضارة والتاريخ؟
|