مبعث كتابة هذه المقالة استماع كاتبها إلى مقابلة أجرتها الإذاعة البريطانية، صباح يوم الجمعة الماضي، مع الأستاذ المشهور ادمون غريب.
وفي تلك المقابلة قال المذيع: إن كوريا الشمالية، التي صنفتها الولايات المتحدة الأمريكية أنها إحدى دول ثلاث تمثِّل محور الشر، قد اعترفت بأنها تملك قدرة نووية في حين أن العراق تنفي امتلاكها لأسلحة دمار شامل وتعلن قبولها مجيء مفتشين دوليين إليها للتحقَّق من ذلك. ومن هنا فإن المتوقع أن يكون تحمُّس أمريكا ضد كوريا أشد من تحمسها ضد العراق. فإن لم يحدث هذا المتوقع ألن يتَّضح للعالم أن أمريكا تكيل بمكيالين؟
وكانت إجابة الأستاذ غريب عن ذلك السؤال هي: بلى. وإن موقف أمريكا سيكون حرجاً باتضاخ تلك الازدواجية في المعايير لديها.
والإجابة المذكورة صحيحة إلى حدٍ ما. غير أن القارئ للتاريخ المتأمل في سير الأحداث على الساحة العالمية يرى أنها، رغم صحتها المحدودة، لا تكفي إجابة عن السؤال المطروح. ذلك أنه ينقصها ذكر عوامل مهمَّة تجعل موقف أمريكا ليس غريبا. وفي طليعة هذه العوامل:
1 أن علاقة أمتنا بالغرب؛ وهو عالم مسيحي مشتمل على فئات يهودية يزداد عددها يوماً بعد يوم، علاقة من أوضح معالمها استعماره لبعض بلداننا، ولو لم يكن من آثامه إلا تمهيده لقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ودعمه المتواصل لهذا الكيان المغتصب، لكفى دليلاً على أنه لا يمكن أن يكون عادلاً في موقفه تجاه قضايانا العادلة. والمتأمل في سير الأحداث منذ بداية القرن العشرين يجد أن انحياز الغرب الواضح ضد هذه القضايا الإسلامية يزداد إذا كانت عربية أيضا، ربما لأنه يرى أن العرب كانوا حملة رسالة الإسلام الأوائل وطليعة نشره في أقطار الدنيا. وكوريا الشمالية لا مسلمة ولا عربية.
2 أن الأهداف الحقيقية للحرب الذي تهدّد أمريكا بارتكابها ضد العراق ليست وفق تحليلات المتابعين للأحداث المدركين لحقائق أبعادها لنزع أسلحة دمار شامل لو فرض أنها موجودة فعلا. بل هي لأمور أخرى في طليعتها الإمكانات الاقتصادية البترولية الكبيرة التي يسيل لها لعاب من يهمُّهم تقدُّم الاقتصاد الأمريكي وازدهاره، ويتطلَّعون بشغفِ ونهمٍ إلى استغلالها. وليس في كوريا ما في العراق من تلك الإمكانات فما الداعي إلى اتخاذ موقف واحد؟
3 أن التجربة التي مرَّت بها أمريكا في الحرب الكورية، ثم في فيتنام المجاورة لها، كانت مريرة جدا بالنسبة لها، أنفساً ومالاً وهزيمة جعلتها تنسحب من هناك. وأي إجراء عسكري يمكن أن تتخذه هناك لابد أن يكون شبح ما لقيته ماثلاً أمامها وأن تحسب له ألف حساب. أما تجربتها التي مرَّت بها الحرب، بزعامتها، ضد العراق فكانت خسائرها في النفوس قليلة لا تكاد تذكر، وكانت بمثابة إجراء تجارب حيَّة على أسلحة لم تستخدم من قبل، وتحطيم قوة قد تهدِّد استراتيجياً دولة اليهود كما ذكر ذلك بيكر في مذكراته ، وترسُّخ أقدامها في منطقة الخليج ذات الموارد البترولية المعروفة. وإعادة تجربتها بالهجوم على العراق، وان اختلفت ظروفها عن ظروف تجربتها الأولى، لا يتوقع المسؤولون المتنفِّذون في إدارتها أن تكون نتائجها سيئة أو مشابهة لهجوم ضد كوريا.
4 أن من المعلوم ما يوجد من ارتباط عضوي بين الكيان الاسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية فقد صرح المجرم شارون، رئيس وزراء ذلك الكيان، أن الرئيسي الامريكي بوش، لا يوجد صديق مخلص لإسرائيل مثله، وصرَّح الرئيس الأمريكي أن شارون داعية سلام وعامل من أجله. وإذا كان كل عاقل يدرك ما تجنيه اسرائيل من مكاسب نتيجة هجوم أمريكا على العراق فإنه لا مصلحة لها في هجوم على كوريا. وما يفيد اسرائيل لابد أن يؤخذ في الحسبان عند اتخاذ أيِّ إجراء تقوم به الإدارة الأمريكية.
وما يمكن أن يخرج به المرء هو أن كوريا غير العراق، ولابد أن يكون الموقف الأمريكي منهما مختلفاً. أما الحديث عن ازدواجية المعايير فلا ضرورة إليه لأنه أمر معروف، ومن يزاول هذه الازدواجية «واطي الريح عناد».
|