وفيما التاريخ يلج حقبه مثخناً بالحروب ومدججاً بالأسلحة، لم يكد يتعافى من حرب كونية أولى إلا ليدخل في أخرى. وفيما يصل العالم إلى أتون حرب باردة مسكوناً بهاجس رعب من معركة تعيده إلى ما قبل التاريخ بين إمبراطوريتين عظميين بعتاد لا يبقى ولا يذر، يكون إن تتهاوى إحداهما مكلومة بأسوارها فيحتفل المنتصرون ويدشنون نظامهم لجميع أرجاء المعمورة.
لم تكد نشوة الفرح العفوي بالانتصار تهدأ إلا ويتفتق فكر فوكوياما الفيلسوف الأمريكي ذي الأصل الياباني، عن فرضية أثرت بالفكر الغربي طوال عقد من الزمن، حين زعم أن نهاية الحرب الباردة توازي نهاية التاريخ، وأن المحصلة هي النصر المطلق للنهج الغربي في الديموقراطية اللبرالية كإنموذج لكل البشر، مدعياً أن هذا النظام السياسي مع رديفه الاقتصادي المتوجه نحو السوق هما الخياران الحقيقيان والوحيدان المتاحان للمجتمعات المعاصرة. وقد تكالبت الأقلام الغربية من مؤيد بحبور ومعارض بامتعاض، ومن بين بين. أشهر المعارضين الغربيين لنهاية التاريخ والعولمة كان هو نتنجتون قائلاً إنها ليست نهاية بل بداية صراعات ناشئة من اختلاف الحضارات، مستنداً إلى أن لكل حضارة خصوصيتها التي لا تندمج. أما المفكر جون جري فهو يرفض أن النزاعات الدولية تتأتى من اختلاف الحضارات، ولكنه يشك أن اللبرالية التي تؤمن بالتنوع يمكن أن تعتمد نهجاً واحداً لكل العالم وأنه ما زال للبرالية جديد يمكن أن تقدمه للعالم المعاصر.
أما وجهة النظر الروسية فيمكن تلمسها في بحث الجنرال الكسندر سنيازيكي الذي كتب: «إننا بعيدون تماماً مما دعاه فوكوياما بنهاية التاريخ. صحيح أن نظام العلاقات الدولية يمر بمرحلة تغيير عميقة، وأن نظام القطبين المبني على التناقض الإيدولوجي والشد السياسي العسكري قد مات، ولكن النظام المتعدد القطبية لم يتشكل بعد. إن نهاية الحرب الباردة أطلقت نزاعات عرقية وجغرافية ودينية وتنافس إقليمي.. ظلت مكبوتة بسبب الذعر من الحرب المدمرة التي يمكن أن تقع بين الشرق والغرب».
الكاتب الصيني يي لي «yee lee» ذكر أن فوكوياما لم يتخيل أنه بعد سقوط الشيوعية، هناك حضارات أخرى يمكنها أن تجعل الشعوب قابلة للعيش تحت الاستبداد. فبعض الدول التي تطمح لتحديث الاقتصاد والتكنولوجيا لا تقبل الديموقراطية أو قيم اللبرالية، مثل الصين. دول أخرى مستعدة لتحديث اقتصادها وسياساتها ولكنها لم تتمكن من العثور على مفاتيح التنفيذ، مثل روسيا. ورغم أنه لا توجد حواجز تغلق الطريق على التغيير، فإن الطريق للديمقراطية والحرية واقتصاد السوق طويل ومتعرج. وفي عالمنا العربي أزدرى جمع من المثقفين، فمن قائل أن أمريكا لم تدخل التاريخ حتى تنهيه، ومن متهكم بأصول صاحب الفرضية، بل بلغ الأمر بأحد المفكرين أن يعتبر فوكوياما مجرد «عيل» متأثر بأفلام الكاوبوي!!.
بعد عشر سنوات وما تخللها من أحداث كتب فوكوياما خواطره الجديدة على فرضيته مؤداها على الرغم من ظهور عوائق جسيمة فإن البشر سيتبنون نظام السوق اقتصادياً والديمقراطية الليبرالية سياسياً وينتهي التاريخ. ويرى أن نقط ضعف فرضيته التي التقطها من المعارضين تكمن في أنه لا نهاية للعلم الذي يحرك التاريخ إلى الأمام، خاصة في مجال التكنولوجية الحيوية. ويختم خاطرته بأن العلوم الطبيعية لا نهائية، ويعتقد أنه خلال جيلين ستعطينا الهندسة الحيوية والأدوات التي تتيح لنا إنجاز ما فشل فيه الاجتماعيون. وعندها «سنكون قد أنجزنا بالتأكيد التاريخ البشري لأن الكائن البشري في ذاته سيصير عدماً. وعنذئذ سيبدأ تاريخ ما بعد البشرية».وتمضي الأحداث غير عابهة بتنظيرهم وتخبط عشواء في الحادي عشر من سبتمبر في السنة الأولى من الألفية الثالثة، فيتغير وجه العالم وتتداعى الخلافات المكبوتة ويشوب يقين المنتصر هواجس القتال ويعود المحارب إلى معركة جديدة.. هنا يفتح التاريخ مساراً آخر له، ويظهر شك واسع في الغرب حول سلامة فكرة نهاية التاريخ، وتتفتق مقولة جديدة هي نهاية نظرية نهاية التاريخ.
|