فجرت نداءات القس الأمريكي جري فولويل من جديد حرباً كلامية بين المدافعين عن الحضارات في سياق ما يسمى بصراع الحضارات، فرّداً على ما يصدر من الطرف الآخر الذي وصل إلى حدِّ التلفظ بألفاظ سيئة ضد النبي محمد صلى الله عليه وسلم كالذي قام به القس الأمريكي، نجد في المقابل ان بعض الكتابات وأشرطة المحاضرات والخطب، تحمل هي الأخرى أقوالاً في غاية العدائية والتحريض على نفي الآخر والاساءة الى رموزه بل وحتى معتقداته.. وهذا ما يفرض وبالقوة فتح قنوات الحوار والاتصال وتوسيع دوائر النقاش بين وارثي الحضارات وبالذات بين الحضارتين الإسلامية والغربية، ولقد جرت محاولات جادة هنا في المنطقة العربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأوروبية لتشجيع الحوار بين الحضارتين، وتلمس نقاط التلاقي والتفاهم مع الآخر، إلا ان الملاحظ هو طغيان وهيمنة «المكان» على مسارات الحوار وفرض وجهة نظر مستضيفي حلقة الدراسة على المشاركين في تلك المؤتمرات واللقاءات.
في الولايات المتحدة الأمريكية وبالتحديد في ولاية أوهايو حضرتُ لقاءً لمجلس تفاهم الأديان، ولاحظتُ أن الفكر الغربي هو المسيطر على النقاش، وأن المتحمسين للأفكار الغربية يحاولون فرض أفكارهم وجعلها حتمية يتوجب على الآخرين الأخذ بها، في حين كان ممثلو «الحضارات الأخرى» إن جاز الوصف يحاولون وبحماس أيضاً إظهار الصور المشابهة للقيم الغربية في حضاراتهم، وكان ممثل الحضارة الإسلامية يقدم أمثلة مشابهة للديمقراطية والحرية والليبرالية والتعددية ويستعيد صوراً في صدر الإسلام ويقارنها بما هو موجود الآن في الدول الغربية.
في حين نجد في المؤتمرات والندوات التي تحصل في المناطق العربية والإسلامية محاولات مستميتة لنسب كل القيم الغربية، وبالذات الطيِّبة منها الى الحضارة الإسلامية، وتقدم صور، وحالات تمت في العهود الإسلامية ويجتهد المحاضرون لتأكيد أن الجذر الأخلاقي والإنساني وحتى الديمقراطي هو من صميم الإسلام، وفي الستينيات نسبوا الاشتراكية للمسلمين الأوائل في محاولات لإظهار أن كل التراث الإنساني والحضاري، إنما وصل الى الإنسان اليوم مشتقاً من التعاليم والقيم الإسلامية، ولولا خلو الحضارة الغربية الحالية من عقيدة التوحيد، لجزم المتحدثون بأن ما نراه من حضارة غربية هو حضارة إسلامية ابتعد عنها المسلمون، فتلقفها الغربيون ليحققوا ما وصلوا إليه.
وهكذا من خلال حرمان الآخر من المبادرة الأولى... وسلب الفكر الآخر من الابداع تعمل الاطراف مجتمعة لإلغاء الآخر من خلال ما يسمونه بالحوار.
|