لم تظهر الواقعية فجأة ولم تكن مجرد فكرة او نظرية خرج بها مؤلف او مفكر وانما جاءت الواقعية كاتجاه شامل ظهر في اكثر من مكان في أوربا وكانت له اسبابه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خلال القرن التاسع عشر. فلقد انتهت في أوربا الصناعة الفردية وحلت محلها المصانع الجماعية، او بمعنى آخر ظهر ما اصطلح على تسميته بالثورة الصناعية Industrial Revolution ورافقتها مجموعة من الاختراعات التي دفعت بوسائل النقل خطوات الى الامام اهمها محرك البخار steam Engine سنة (1807) الذي أمكن استخدامه في تحريك الزوارق والعربات التي سهلت حمل المنتوجات الصناعية.
آثار الثورة الصناعية
وقد أدى نشوء المصانع وظهور طبقة عمال المصانع الى حركة جماعية للافراد للسكن في المدن بالقرب من مواقع أعمالهم. وقد سبب هذا مشاكل اجتماعية خطيرة تميزت بها المدينة الحديثة وهي ازدحام السكان في المدن الصناعية وظهور الاحياء الفقيرة التي تفتقر الى وسائل العناية الصحية وتتحول الى اوكار للجريمة والانحراف كما هو الحال في معظم المدن الكبرى في الغرب الى اليوم.
ولم تحرك الحكومات الاوربية ساكناً تجاه المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي صاحبت الثورة الصناعية وما نجم عنها من ازدحام المدن بالعمال فما زالت ذكريات الثورة الفرنسية ومن قبلها مطالب الثورة الامريكية التي نادت بالعدالة والحرية والمساواة. واذا كانت الثورة الصناعية قد أدت الى اتساع الطبقة الوسطى وازدهارها فإن شيئا لم يتحقق للطبقات السفلى التي اكتظت بها المدن بل أدت الثورة الصناعية الى تعقيد مشاكلها، وقد ادى هذا سنة 1830 الى اول موجة عصيان تشهدها اوربا والى تكرار ذلك في الفترة ما بين 1845 و1850م، وهكذا اصبحت حتمية التغيير في اوربا واضحة وهو ما حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وقد رافق هذا التغيير السياسي والاقتصادي الاجتماعي في اوربا اتجاها فنيا يعبر عنه، هذا الاتجاه كان (الواقعية) وبدأ هذا الاتجاه الجديد بمعالجة القضايا والمشكلات الاجتماعية المهمة لاول مرة في تاريخ المسرح وخاصة مشكلات الطبقات الفقيرة بنفس الروح الجديدة التي كانت قضايا الطبقات العليا والوسطى تعالج بها في المسرح.
أثر العلمانية المادية
وكان لابد نتيجة لهذا التغيير الشامل في أوربا ان تسقط الرومانسية المذهب الادبي السائد منذ اوائل القرن التاسع عشر مع ما سقط من انظمة وافكار ومعتقدات. وكان لابد من سقوط الرومانسية وما شابهها ضحية لرياح التغيير الجديدة في اوربا، ذلك لان المسألة لم تكن قضية استبدال مذهب فني بآخر فحسب بل صاحب ذلك تغير في طريقة تفكير اوربا ونظرتها للكون والحياة. فقد واكب هذا التغيير الاتجاه اللاديني والنظرة المادية الالحادية التي سادت باسم العلم والاختراع. وللانصاف فإن روح معظم الاعمال الرومانسية تتعاطف مع اتجاه اوربا للديمقراطية لأن ابطال مسرحياتهم يكونون دائما دعاة تغيير وإصلاح وكان الاستخدام السيئ للقوة الاقتصادية او السياسية من الموضوعات المتكررة في كل من الاعمال الرومانسية والميلودرامية. ولكن الحقيقة ان وجه الاعتراض على هذا النوع من الدراما هو انها كانت تضع اعتبارا لقدرة الله وان العناية الالهية في كل من المسرحيات الرومانسية والميلودرامية كانت تلعب دورا في حياة الابطال الذين يتمتعون في كثير من الاحوال بقدرات روحية خارقة في مواجهة الصعاب ونظرة ما يعتقدون انه حق. ففي الميلودراما نجد الشخصيات الطيبة دائما منتصرة الشيء الذي يوحي ضمنيا بأن العناية الالهية تراقب أفعال الانسان وتبارك الطيب منها وتضمن انتصار الحق والعدل في النهاية بينما في المسرحيات الرومانسية نجد الابطال يواجهون الموت في النهاية كقدر لابد منه.
ومن كلا الحالين بدا لرواد الاتجاه العلماني في اوربا ان هذا النوع من الدراما يضع مصير الانسان خارج إرادته ويدعوه للصبر والرضا بقدره وهو أمر لم تعد تؤمن به حركة التغيير وروحها الالحادية التي سادت أوربا.
نظرية البيئة والوراثة
وقد كان وراء هذا الاتجاه الالحادي النظريات العلمية التي سيطرت على العقل الاوربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي دعت الى تطبيق المنهج العلمي المادي في مواجهة المشاكل الاجتماعية وكان أقوى رواد هذا الاتجاه أوجست كومت Auguste Comte (1798 1857م) بكتابيه (الفلسفة الايجابية) Positeve Philosophy خمسة مجلدات (1830 1842)، وكتاب (الدولة الايجابية) Positeve Polity أربعة مجلدات (1851 1854). وتتلخص نظرية كومت بان العلم يستطيع ان يجيب على كل الاسئلة التي تخص مشكلات الانسان ومعاناته الاجتماعية من خلال الملاحظة والتحليل العلمي الذي يؤدي الى معرفة الاسباب وضبط المسببات.
جاء تشارلز دارون Charles Darwin (1809 1882) متأثرا بآراء كومت ومكملا لاتجاهها المادي الالحادي من تفسير ظاهرة وجود الانسان، فخرج على الناس بنظرية النشوء والارتقاء التي فصلها في كتابه المشهور (أصل الانواع) the Origin of Species (1859) الذي اصبح اهم كتاب صدر في القرن التاسع عشر. ونظرية دارون هذه التي اثبت العلم الحديث بطلانها من الشهرة بحيث لا تحتاج لشرح لتفاصيلها، فقد فسرت ظهور الانواع واعادتها جميعا الى أصل واحد وان تطورها بعد ذلك يعود لاسباب بيئية ولمنطق البقاء للاقوى. وتفسر نظرية دارون ظاهرة الكائنات الحية في ضوء عاملين أساسيين: اولهما الوراثة Heredity وهو ما يرثه الانسان عن اسرته وابويه منذ ولادته وثانيهما البيئة Enviroment وهي ما يكتسبه الانسان بعد ولادته والعوامل التي تؤثر عليه من المجتمع الذي يعيش فيه.
وبحصر الانسان وقدره في عاملي البيئة والوراثة أنكر دارون وجود الله ودور العناية الالهية في حياة الانسان وخالف قصة خلق الانسان التي وردت في الكتب السماوية. حصر دارون الحقيقة في الحواس الخمس وما عداها أنكره الا ما يمكن اثباته ماديا بالملاحظة المعملية. والغريب ان نظرية دارون التي ارادت ان تخرج الانسان من دائرة القدرة الالهية لم تفلح في جعل الانسان حرا كما تزعم بل اوقعته أسيراً لعاملي البيئة والوراثة وهما عاملان ليس للانسان عليهما قدرة لانه لا يستطيع ان يتخلص مما يرثه عند ولادته ولا يستطيع التخلص من البيئة التي يعيش فيها. لهذا جعلت نظرية دارون بضيق أفق صاحبها من الانسان ضحية لهذين العاملين اللذين لا حول له ولا قوة عليهما. ولقد حصر دارون المعرفة في حدود مادية أضيق حين انكر المعرفة التي تخرج عن دائرة الحواس الخمس والملاحظة المباشرة. وهكذا أصبحت (الحقيقة) بالنسبة للمؤمنين بهذه النظرية هي كل ما يمكن اثبات وجوده ماديا وما عدا ذلك فليس له وجود في نظرهم!!
النظرية المادية في المسرح
المهم ان النهضة العلمية التي شهدها منتصف القرن التاسع عشر كانت مادية الحادية وان اثرها كما انعكس على الحياة الاوربية كلها انعكس على الفنون والآداب، وارتبطت هذه النظرة بمعنى الواقعية في المسرح، فأصبح لزاما على الكاتب المسرحي ان ينقل الواقع الذي يراه في العالم الحقيقي اي الواقع المعاش الملموس بالحواس الخمس، ولذلك فعليه ان ينحصر في تصوير البيئة التي يعيش فيها وان يتعامل مع مادته الدرامية بموضوعية العالم وان يكون أمينا في نقل الواقع بدون اية اضافات او حذف وكان من الطبيعي اذن ان تظهر في هذه الفترة الاعمال المسرحية التي تهتم بتفاصيل الواقع المعاصر والحياة الاجتماعية الحديثة ويقل الاهتمام بالموضوعات التاريخية ولا تعتبر المسرحيات التي تتناول العواطف السامية والأفكار الانسانية المثالية والهمم العالية موضوعات واقعية واصبحت في نظرهم من قضايا الرومانسية البائدة.
المصادر:
1-Droz, Jacgnes, Europe Between Revolutions 1815 - 1848, Trans. Robert Baldick, New York, 1967.
2- Fitzgerald, Percy, the world behind the Scenes, London, 1881.
3- Melcher, Edith, stage Realism In Rrance, Brgnmawr, Pa., 1928.
4- Talmon, Jacor, Romanticism and Revolt: Europe
|