بادرت روسيا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر الى إعلان انضمامها ودعمها للحملة الكونية على الارهاب بزعامة أمريكا التي اعتمد رئيسها بوش مؤخراً أضخم ميزانية عسكرية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية التي تبلغ 300 بليون دولار أمريكي وذلك دون ان يغلق الكونغرس بند نفقات الحرب على العراق في حال قدح شرارتها «والزيادة الملحقة المتوقعة تبلغ 100 بليون دولار أمريكي أخرى» وقد علق الرئيس الأمريكي بمناسبة المصادقة على ميزانية البنتاغون بقوله:«إن أمريكا مصممة ليس فقط للدفاع عن حريتها وإنما الدفاع عن الحرية في كل أنحاء العالم، ونحن مصممون على تلبية نداء التاريخ لهزيمة الارهاب» وتدعي روسيا أنها الحليف القوي لأمريكا في حملتها على الارهاب وفي الحقيقة ساهم الروس بطرقهم الاستخباراتية وبطرق أخرى في مد يد العون للأمريكان.
ولكن تعريف الروس للإرهاب وطرق التعامل معه يختلف في الجوهر عن النماذج الغربية. فبينما يطلق الأمريكان الحملات الانسانية لمساعدة افغانستان فإن الروس يتعاملون بشكل عسكري صرف مع القضية الشيشانية وهم يشنون حربهم الثانية الآن على الاقليم الجريح في شمال القوقاز، ويقطن الشيشانيون كباقي شعوب المنطقة منذ الألفية الميلادية الأولى منطقة شمال القوقاز وهي عبارة عن شريط من سلسلة جبال تمتد من البحر الأسود الى بحر قزوين وتشكل حدا وفاصلا طبيعياً بين أروبا وآسيا، وقد أدمت أطماع الروس هذه الحدود خلال القرنين والنصف الأخيرين «شهدت فيها الشيشان وحدها أكثر من 25 ثورة»، وتجرع الشيشانيون مع شعوب المنطقة «من قبرطاي وأديغة وأنغوش وشابسوغ ووبخ وداغستان» مرارة النفي والتهجير القسري وويلات الحروب مع الروس بدءا من حروبهم مع روسيا القيصرية وانتهاء تحت مقصلة الشيوعية. ففي عهد ستالين وحده عام 1944م تم تهجير مئات الآلاف من الشيشانيين والأنغوش الى سيبيريا وقضى ربعهم نحبه في طريق الهجرة أو في المنفى بعد ان كابدوا شظف المجاعة وذاقو العذاب، ومنذ أفول نجم الشيوعية قامت حركة الاستقلال من سباتها في الشيشان لتشتعل في حربين الأولى بين عامي 1994 - و1996م والثانية ما زالت مستعمرة بدءاً من عام 1999م. وقد خسرت القضية الشيشانية الكثير من أسهمها في بورصة العدل لدى الغرب ولاسيما بعد صبغها بالتطرف والأصولية الاسلامية وخروجها عن اطارها التحرري القومي، وما العملية الأخيرة في احتجاز بضع مئات من الرهائن المدنيين في قاعة قصر الثقافة التابع لأحد المصانع في العاصمة موسكو من قبل زمرة من الانتحاريين المنادين بانسحاب الروس من الشيشان إلا فصل آخر في مهزلة الحرب الروسية - الشيشانية نتيجة افلاس امكانات الحل السلمي وانسداد دروبه، وهذه العمليات الانتحارية هي خسارة أخرى في أسهم القضية الشيشانية.
تندرج النزعة الانفصالية تحت تعريف الارهاب في القاموس الروسي، وذلك رغم ما حدث من انفصال العديد من الجمهوريات السوفيتية السابقة عن جسد الاتحاد السوفيتي بعد انهياره في أوائل التسعينيات من القرن المنصرم عقب الصدأ الذي علا أطرافه مما استدعى تكسر أوصاله بعد تجمدها بصقيع الحرب الباردة من الخارج وفشل الشيوعية كنظام دولة لاستبداده في الداخل.
«إن التعريف الروسي لمكافحة الارهاب، ووسائله يظهر اشكالية التوافق مع التعريف الأمريكي ووسائله» «وذلك على حد قول البروفيسور ستيفن بلاك من معهد الدراسات الاستراتيجية لكلية السلاح الأمريكي». ورغم مشاركة الروس الأمريكان في وضع اللمسات على مستقبل أفغانستان بعد طالبان، لكن المبادىء وتطبيقاتها العملية التي تستند عليها السياسة الروسية في تعريف الحرب على الارهاب تختلف كليا عن نظيراتها الغربية. وقد وضع الروس شرطا للتحالف الروسي الأمريكي يقضي بدعم الروس في حربهم ضد الانفصاليين في اقليم الشيشان ورفضهم للمعايير المزدوجة في رصدهم وانتقادهم لربطهم بين مفهومي الانفصالية والارهاب أيضا تجاه العمليات والممارسات العسكرية في جمهورية الشيشان ورغم التقدير المتواضع للخسائر البشرية التي تعلن عنها الادارات الروسية الرسمية فإن التعليق السابق للاسكندر ليبيد «رئيس الأمن القومي السابق» كاف لبيان تضارب التصريحات والأرقام بقوله «في الحرب الأولى لاستقلال الشيشان بين عامي 1994 و1996م قتل حوالي 80 ألف شخص وجرح 240 ألفاً آخرين» وحتى ان التقارير الحالية المتضاربة تشير وحسب اذاعة الBBC الى الكارثة الانسانية في الشيشان والمتمثلة بنزوح 30 الى 100 ألف شيشاني للأقاليم المجاورة ولاسيما أنغوشيا.
إن العقيدة السياسية الروسية «ما زالت تحمل إرث الماضي القيصري والشيوعي بإرهاصته القمعية» وهذا واضح في السياسة الخارجية والداخلية الروسية التي لا تفتح باب الحل ال«Socio economice» الاجتماعي - الاقتصادي لنزاعها في الشيشان، ولا تدخلها أصلا في حساباتها مفضلة دوما التركيز بنقاء على الحل العسكري الذي يحمل بين طياته نزعة الابادة الجماعية. فالنزيف في الشيشان يخدم طبقة من المسؤولين الروس الذين يسرقون مخصصات الحرب واعادة الإعمار لذلك فحتى ان فاز الروس في الحرب فسيلفون دماراً وتلفا في منطقة شمال القوقاز ولن يتمكنوا من اعادة الاعمار.
إن الحرب الروسية - الشيشانية وممارسات الجيش الروسي التي لا يحكمها القانون والشرعية الدولية تعكس فشل الحكومة الروسية في دقرطة هيكل القوة الروسية «جعله ديموقراطيا» بشقيه العسكري والاقتصادي إبان الانهيار الشيوعي هذه هي الحقيقة القاسية، ولطالما بُني السلام على الحقيقة مع تلازم إرادة التحدث بها.
لم تكف الولايات المتحدة الأمريكية عن نقد الروس ففي ممارساتهم في الشيشان، وتعاظم دورها في لجم الروس عن تدخلهم العسكري في اقليم بانكيسي في جورجيا بحجة وجود مقاتلين شيشان في هذه المنطقة. فرغم وجود الروس في خندق واحد مع الأمريكان في حربهم على الارهاب فإن طبيعة الشراكة ما زالت غير متجانسة لاختلاف المصالح والأسس التي يستند عليها كل طرف.
ومع تزامن صعود التشدد الأمريكي لضرب العراق لتجريده من أسلحته الى سطح السياسة العالمية، فإن سفينة الرئيس الروسي بوتين بدأت تتخبط بين أمواج بوش والعراق العاتية، وبدأ الصوت الروسي يخفت في دعم الحملة الأمريكية على الارهاب، وروسيا تحاول جاهدة الحؤول دون ضرب العراق، ومستشارو بوتين يتهمون الغرب بالمعايير المزدوجة حتى ان خيبة الأمل الروسية الأخيرة حول مشروع القرار الأمريكي لنزع أسلحة العراق الذي قدمته لمجلس الأمن مؤخراً لم يقنع الادارة الروسية لعدم احتوائه على الجديد وحيث ان الادارة الأمريكية لم تقدم أسباباً جوهرية تحث الروس على التراجع عن ممانعتها لاستخدام القوة. فروسيا الآن تشرف على 40% من مبيعات النفط العراقي ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء الذي تم الاتفاق عليه في عام 1996م مع نظام صدام، وان ضرب العراق ممكن ان يؤذي الاقتصاد الروسي الذي يعوم على الأسعار العالمية المرتفعة لبرميل النفط والشركات النفطية الروسية التي حصلت على استثمارات هائلة في ظل نظام صدام ترغب في الاحتفاظ بهذه العقود، وحتى تحت مظلة نظام غربي صديق في بغداد، ولكنها لم تستلم الضمانات الكافية لذلك بعد. ويقول سيرغي كاراغانوف «مساعد الرئيس بوتين للشؤون الخارجية» «أرجو أن تنساق حكومتنا وراء مصالحنا في العراق، فهذه هي سياسات الحكومات الأخرى، فلماذا لا نكون كذلك؟» ورغم ان النظام العراقي الذي يدين بثمانية بلايين دولار لروسيا منذ العهد الشيوعي إلا ان هذا الرقم يمكن اهماله في حال تدهور أسعار النفط والتبعات التي ممكن ان تؤثر أيضا سياسا على الرئيس بوتين ولاسيما في تحضيره للانتخابات الرئاسية الروسية القادمة عام 2004م. وما زال الصولجان المتبقي للنفوذ الروسي في السياسة الخارجية كامناً في حق الفيتو في مجلس الأمن وأي تصرف أحادي الجانب من أمريكا دون غطاء شرعي من مجلس الأمن قد يؤدي لتداعيات خطيرة من وجهة نظر موسكو، وكما تخشى روسيا فقدان صولجانها وتأثير دبلوماسيتها، وذلك حسبما يقوله أندريه بيونتكوفسكي «محلل في مركز الدراسات الاستراتيجية في موسكو»:«إذا فيَتو الروس «استخدموا الفيتو» فلن يلجأ الأمريكان الى مجلس الأمن أبداً». وروسيا تسعى لتصيد قرار دولي تجاه العراق يحفظ ماء وجهها ومصالحها ويمسك عنها ما يجلب الضرر ويؤخر الضربة العسكرية لعل الرئيس بوش وصدام يرجعان عن شفير هاوية الحرب المرتقبة.
إن تأرجح السياسة الروسية بين دفتي مصالحها الأمنية والاقتصادية ووثباتها في مكانها يأتي من التأثير القوي لرسول الحرية الأمريكية بسياستها التي مدت نفوذها الى أفغانستان والجمهوريات السوفيتية السابقة، وهي لا تكف عن محاولاتها لتوجيه السياسة الخارجية الروسية، وذلك بقطع كل أشكال التعاون ولاسيما النووي مع ايران «وهي من دول محور الشر في تصنيف الأمريكان».
والسؤال الذي يصعد للسطح في ظل انكفاء السياسة الروسية الخارجية والداخلية وتقوقع قدراتها هي في ان تقود صداقتها مع رسول الحرية الأمريكية لهزيمة الارهاب الى فنائها، فكما تروي احدى الروايات ان رجلا صادق ملك الموت، فكان إذا جاءه يسأله الرجل: أزائرا جئت أم قابضاً؟ فيقول الملك: جئت زائراً.. وفي يوم قال الرجل لملك الموت: أسألك بحق الصداقة ان ترسل لي رسولا حين يحين أجلي يخبرني بقدومك لقبض روحي فقال الملك: لك ذلك ثم هبط ملك الموت. يوما على الرجل فقال الرجل: لعلك جئت زائراً فقال بل قابضاً، فقال الرجل أما سألتك ان ترسل لي رسولاً يخبرني بذلك، فقال لقد فعلت فقال لم يأتني رسولك قال: بل أتاك تقوس قامتك بعد استقامتها وابيضاض شعرك بعد سواده وارتعاش صوتك بعد ثباته وضعفك بعد قوتك وذهاب بصرك بعد حدته، ويأسك بعد أملك، طلبت رسولاً واحداً فأرسلت اليك عدة رسل.
|