Thursday 31th October,200210990العددالخميس 25 ,شعبان 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

رؤى بولندية رؤى بولندية
ميلاد حنا.. الصينيون.. وكراكوف «3»
سعد البازعي

أود في هذه المقالة النهائية حول رحلتي إلى بولندا أواخر سبتمبر الماضي أن أتوقف عند بعض الجوانب اللافتة للاهتمام في تلك الرحلة، وذلك على شكل ثلاث إضاءات مختصرة نسبيا.
أ الإضاءة الأولى تتعلق ببعض ما دار في مؤتمر العولمة، وبالتحديد المشاركة العربية فيها. وكنت قد أشرت في المقالة الأولى من هذه السلسلة إلى الكاتب المصري الدكتور ميلاد حنا بوصفه المتحدث الرئيس المستضاف في المؤتمر، ووعدت بذكر مزيد من التفاصيل حول تلك المشاركة، وهو ما أود تقديمه هنا.
أولا: الدكتور حنا أحد المثقفين المصريين الذين عرفوا بصلتهم المبكرة بالقيادة السياسية المصرية منذ عهد الرئيس عبدالناصر. ويشير بعض المتابعين إلى انه عرف بتوجهه اليساري أو الماركسي تحديدا منذ فترة بعيدة. ومع أن الدكتور حنا الذي يشير اسمه إلى كونه مسيحيا لم يشر إلى ذلك التوجه في حديثه إلى المؤتمر، أو فيما دار من أحاديث بعد ذلك، فإنه كان يكثر من الإشارة إلى قربه من الساسة المصريين. لكن هذا بالطبع ليس ما يهمنا. المهم هو ان الرجل دعي إلى بولندا بوصفه «مفكراً» عربيا من مصر، وانه كان محل اهتمام مستضيفيه والمشاركين في المؤتمر من الجنسيات المختلفة. المؤلم هو انه حين تحدث لم يكن حديثه بمستوى التوقعات المشرئبة إلى كل كلمة كان سيقولها. فماذا قال حنا؟.
كان المعلن في برنامج المؤتمر هو أن حنا سيتحدث عن أطروحة الأمريكي هنتغنتون، وانه سيرد عليها. لكنه لم يفعل ذلك، بل انه لم يعد ورقة أصلا واكتفى بحديث ارتجالي لمدة ساعة تقريبا حول أشياء كثيرة، مما جعل حديثه يأتي كشكولا غير مترابط من النقلات التي كان منها المهم وغير المهم، إلى جانب «المحزن» بل المخجل على المستوى الثقافي/ العلمي!.
كانت المشكلة الأولى ان الرجل تحدث ارتجالا ولكن إنجليزيته كانت ضعيفة في مقام مؤتمر علمي في بلد أجنبي. وقد يكون ضعف اللغة وعدم السيطرة عليها هو ما أودى به إلى ملاحظات ليست خاطئة فقط بل كارثية على مستوى المعرفة. وسأكتفي هنا بملاحظة واحدة هي في اعتقادي أم المصائب. فقد بدأ الأستاذ يتحدث عن كتاب له بعنوان «أعمدة مصر السبعة نال بموجبه جائزة دولية باسم المناضل المكسيكي سيمون بوليفار لعام 1998، ولم يتضح لأحد أنذاك أي جهة منحته إياها!». ثم جره الحديث المرتجل إلى إبراز عظمة مصر على مر التاريخ، فبدأ يشير إلى مختلف الحضارات والديانات على أنها نبعت من مصر، أو بتعبيره «طبخت» في مصر. وعلى هذا الأساس استرسل في ذكر القائمة الممتدة من الحضارة الفرعوية الى الحضارة اليونانية الى الديانة اليهودية «مؤكدا ان موسى عليه السلام كان أميراً مصرياً!» الى المسيحية «قام القديس مارك بزيارة مصر، ولم تتضح العلاقة!» وهو يرى فيما أورد حججاً تاريخية تقنع المستمعين. ثم انتهى المحاصر بالإسلام فأكد انه أيضا «طبخ» في مصر، وأشار الى علم الكلام وأحمد بن حنبل، وكأن لهذا علاقة بمصر أو ب «طبخة الإسلام»!!!.
كان ضربا من الخرف على شكل محاضرة، لم يتردد البعض في إبداء تحفظهم عليه، لكن يبدو أن كون الرجل في الثمانين بالإضافة الى كونه الضيف الرئيس حال دون التعبير عما هو أسوأ من التحفظ. وبالطبع فان الأكثر إيلاما هو ما عرفه الأجانب عن ثقافتنا العربية من خلال شخص كميلاد حنا، أولئك الباحثون الجادون بأوراقهم وأطروحاتهم رأوا نموذجاً مهترئاً للثقافة العربية يصعب إزالة آثاره.
ب الإضاءة الثانية تتعلق بنموذج مغاير، هو النموذج الصيني، بل بكيفية تقديم الصينيين لأوراقهم. فقد شعرت مع آخرين من الحضور أننا إزاء اختلاف ثقافي مهم وجدير بالقراءة، لا سيما بالمقارنة مع النموذج الضعيف الذي قدمه السيد حنا.
وكان المؤشر الأول على ذلك الاختلاف هو جماعية الأداء. تحدث أولا أحدهم باللغة الإنجليزية وقال إننا سنستمع أولا الى السيد/ جانغ شاوهوا رئيس «منظمة دعم الحضارة العالمية»، والذي عرف أيضا بوصفه «الأكاديمي في الأكاديمية الدولية لعلوم الطبيعة والمجتمع».
وبعد أن قرأ ذلك الأكاديمي كلمة مختصرة بالصينية اضطرت فريق الترجمة في المؤتمر للسكوت السريع، عاد المتحدث الذي قدمه ليقدم ترجمة كاملة. بعدها تقدم باحث آخر وفعل الشيء نفسه ليترجم كلامه أيضا، وهكذا مع الرابع.
وحين انتهى التقديم ساد إحساس بأننا انتهينا من الاستماع الى «معزوفة» بحثية، بغض النظر عن مدى الانسجام معها، أو الاتفاق مع ما قدمته. كان لوناً من العمل الجماعي المشترك الذي لم أره من قبل، والذي كنت أتمنى لو أن الضيف العربي المصري تعلم منه معنى التواضع، والتقليل من تمركزه الإقليمي الضيق بنسبة كل الإنجازات البشرية، ودونما تردد أو خجل الى بلاده..
ج الإضاءة الثالثة والأخيرة تتعلق بمدينة كراكوف البولندية الجميلة.وكنت قد تلقيت وعدا بأن ترتب لي زيارة الى تلك المدينة الواقعة الى الجنوب الغربي من بولندا، وكان الجميع يؤكد أنني سأعجب بها أكثر من غيرها، وهو ما حدث بالفعل. ففي اليوم قبل الأخير استقليت القطار لأمضي ثلاث ساعات تقريباً قبل الوصول الى مدينة غارقة في التاريخ من ناحية، وفي الثقافة من ناحية أخرى.
أما الطريق فكان مجللا بأشجار خريفية الألوان لم أستطع الفكاك من متابعتها عبر شباك القطار. كانت تبعث على الحزن والبهجة معا، أو لعلها الكآبة التي تحدث عنها الإنجليزي جون كيتس حين أشار إلى ثنائي الجمال والكآبة، إذ تنبعث هذه الأخيرة من الشعور بحتمية موت الجمال.
ولكن لندع الكآبة جانباً، ففي كراكوف كان الكثير مما يبعث على البهجة فحسب. وكانت البداية عند مخرج المحطة مع طالبين من جامعة «جاغيللونيان» العريقة جاءا للاستقبال والمرافقة، وذلك بترتيب مسبق بين مركز الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم في وارسو ومركز دراسات الشرق الأوسط والأقصى في جامعة جاغيللونيان. أحد الطالبين كان يدرس الآثار، بينما كان الآخر يدرس الوضع السياسي في الشرق الأوسط، ومع الاثنين كان الوقت يمضي ممتعاً وثرياً بالتنقل بين مبان تعود إلى أوائل العصور الوسطى ومتاحف جامعية وقصور وقلاع تضرب في عراقة القرون، إلى جانب ساحات تبعث على البهجة بما انتشر عليها من مقاه وملأ أنحاءها من حمام يذكر بساحة «الطرف الأغر» في لندن، ولكن بقدر أكبر من الهدوء والصفاء اللوني والإنساني.
انتهت الجولة بزيارة إلى الدكتور أندرزيج كابسفسكي «وهذه تهجئة أبعد ما تكون عن الدقة لاسمه البولندي» الذي يدير مركز الدراسات المشار إليه، والذي سبق أن عمل سفيرا لبولندا لدى دولة الإمارات. في مكتبه الصغير قدم كابسفسكي شرحاً لأعمال المركز والدارسين فيه، ومنهم طالب الدراسات العليا الذي كان برفقتي. وبعد اللقاء اللطيف كان علي أن أتجه إلى منطقة قريبة من محطة القطار استعدادا للعودة. غير أنني فوجئت بصاحبي يأخذني إلى مقهى صغير ما إن دخلته حتى وجدت مفاجأة بانتظاري.
كان أمامي وجه عربي القسمات سعدت لرؤيته وللبقاء «بعهدته» بعد أن تركني الطالبان البولنديان. ذلك هو الدكتور يوسف شحاده، الفلسطيني الحاصل على الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة جاغيللونيان، والذي يدرس اللغة العربية وأدبها للطلاب البولنديين.
وبالطبع كان الحديث ذا شجون تمتد من الهموم بل المآسي العربية المشتركة إلى الطموحات الشخصية على مستوى المعيشة والإنتاج العلمي «أنجز شحاده رسالته حول شخصية البطل في أعمال غسان كنفاني القصصية». وامتد الحديث على فنجاني الشاي ولفح الهواء البارد إذ يتسلل مع باب المقهى كلما انفتح، وانتهى بالأخ شحادة يوصلني بكل لطف إلى مقعدي في القطار العائد إلى وارسو ويطمئن على كوني في المكان المريح.
وكانت هذه الملاحظة مهمة لأنني أخبرت بأن أحترز من الركوب وحدي في مقصورة خاصة لأنه قد يحدث أن يدخل أشخاص يعتدون على الركاب، فقمت بناء على تلك المعلومات الخطيرة باختيار مقصورة مشتركة بها بعض البولنديين احترازاً وزيادة في الاطمئنان.
لكن يبدو ان تلك الزيارة وصلت حد الاسترخاء الذي أدى بدوره إلى نسيان شيء مهم هو نظارات القراءة، فكان أن عدت في اليوم التالي إلى الرياض وقد فقدت ولو مؤقتا قدرتي على رؤية الأشياء القريبة بوضوح.
ولكني عدت وأنا أواسي نفسي بأنني ربما أكسبتني نتيجة الزيارة مقدرة أكبر على رؤية الأشياء الأبعد قليلا.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved