Saturday 7th December,200211027العددالسبت 3 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

التنمية العمرانية الحقيقية التنمية العمرانية الحقيقية
د. محمد شوقي مكي (*)

انتهت مؤخراً ورشة العمل التي عقدتها وزارة الشؤون البلدية والقروية بعنوان «استراتيجية التنمية العمرانية للمناطق» خلال الفترة من 21- 23/8/1423هـ بحضور العديد من ممثلي الإدارات الرسمية والمهتمين والأكاديميين. ولقد نجحت الوزارة في اتباع هذا النهج في مناقشة خطط التنمية مع قطاع واسع من المهتمين بالتنمية العمرانية في المملكة، وكذلك في الاهتمام بالتنمية على المستوى الإقليمي والتي كان المأمول أن تبدأ منذ عقود ماضية ومن قبل وزارة التخطيط التي تهتم بمستويات التخطيط، ولكن الدراسات والتنسيق بين أطراف التنمية دائماً يأخذان وقتاً ليس بالقصير. المهم أننا بدأنا خطوات الطريق الصحيح، ومع هذا فإنه لا بد من التنبيه قبل اعتماد استراتيجية التنمية العمرانية للمناطق على ضرورة التأكد من شمولية هذه الاستراتيجية لكل عناصر التنمية بشكل متوازن بعيداً عن التحيز إلى عنصر أكثر من آخر، والذي يبدو أن الاستراتيجية المقترحة تقوم على خطوط عريضة لعناصر التنمية دون تعمق في تقييم هذه العناصر.
إن هذا الموضوع يشتمل على مصطلحين هما: استراتيجية وتنمية وكل منهما يوحي بالعمق والشمولية في المعالجة.
لقد عكست الاستراتيجية المقترحة عدة محاور مكررة للتنمية في جميع المناطق مثل الاهتمام بتنمية الصناعة والزراعة والرعي والسياحة والخدمات، دون عمق في تحديد نوعية الصناعات التي يمكن أن تقام في المنطقة، أو نوع المحاصيل الزراعية، أو حيوانات الرعي أو الخدمات التي تميز منطقة عن أخرى وتؤدي إلى الاستغلال الأمثل للموارد حسب درجة قوتها أو محدوديتها. إن ما تحتاج إليه مثل هذه الاستراتيجات هو وضع معايير دقيقة لتنمية العناصر المختلفة دون ترك الحبل على الغارب، وكذلك الاهتمام بالجانب الاجتماعي للتنمية بقدر اهتمامنا بالجانب الاقتصادي أو الاستراتيجي.
وفي اعتقادي أنه بدون الأخذ بهذين الجانبين ستصبح التنمية كاذبة تهتم بالقشور دون سبر الأعماق ولا تنتج تنمية حقيقية للمكان والسكان. إنه ليس من المهم أن نبني كل يوم مصنعاً أو أن ننشىء مدينة، وإنما الأكثر أهمية التركيز على الفائدة الفعلية لهذا المصنع في خلق النمو في المنتج المحلي أو القومي الذي يضيف زيادة في رفاهية قطاع واسع من أفراد المجتمع، وذلك لن يتأتى إلا باستغلال الموارد المحلية بأقصى، ما يمكن سواء فيما يتصل بالعمالة أو المواد الخام، وتصدير المنتج إلى خارج المنطقة أو البلاد، وللأسف فإن كثيراً من صناعاتنا المتنامية تعتمد في مواردها على مواد مستوردة، وفي عمالتها على العمالة الوافدة، وتصريف منتجاتها محلياً، مما يؤدي إلى نزيف الاقتصاد المحلي إلى الخارج، أو عدم إضافة مردود ربحي حقيقي له، وبالتالي عدم حدوث التنمية الحقيقية في مراكزنا العمرانية.
كما أن الاهتمام بالجانب الاجتماعي مهم جداً ويفوق أحياناً الجانب الاقتصادي لأن الجانب الاجتماعي لا يخضع دائماً لقانون العرض والطلب وإنما هناك جوانب لابد من تحقيقها حتى لو كانت تكلفتها مرتفعة لتحقيق الراحة والرفاهية الاجتماعية للسكان، ولهذا فإن بديل التنمية المحورية هو أضعف بديل من وجهة النظر الاجتماعية لأنه يركز على قطاعات أو ممرات مكانية معينة ويترك الباقي دون تنمية، وبالتالي يظهر الكثير من الصعوبات والعقبات أمام حصول السكان على الخدمات والوظائف واستغلال الموارد المحلية بكفاءة.
ولهذا فإنه من المستهجن أن نقوم بإنشاء العديد من الخدمات المركزة في الحواضر الكبيرة أو الصغيرة والتي تحمل أسماء وشعارات عالمية، ولكنها في واقع الأمر لا تؤدي إلى تنمية حقيقية وإنما إلى مزيد من النزف للموارد والمدخرات المحلية. ومن المؤسف أن مثل هذه الأسماء تنتشر في جميع المراكز دون مراعاة لخصوصية المكان والإنسان. لعله من المقبول أن تنشأ مثل هذه الخدمات التي نرى صفحات الصحف اليومية أو الأسبوعية تزخر وتروج لها في مدن مثل الرياض وجدة ولكن أن تنشأ بالمستوى نفسه في مكة المكرمة أو المدينة المنورة فأمر مرفوض، ولا بد أن توضع معايير محددة لضبط انتشار مثل هذه الخدمات المؤذية لمشاعر وثقافة قاطني أو مرتادي هذه المدن وكذلك للمظهر الحضاري لها والذي يعكس مزايا وخصوصيات لا مثيل لها.
أليس من المخجل أن نجد بجوار بيت الله الحرام ومسجد نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أسماء لفنادق أجنبية ومطاعم غربية؟!
هل عجزت رؤوس أموالنا المحلية والعائدة من تقديم خدمات بالمستوى نفسه ولكن بأسماء عربية ومواد محلية وليس بخلطات تأتي من الخارج حتى لأبسط المواد المتوفرة محلياً، بل ألم يكن باستطاعتنا إنشاء مثل هذه الخدمات بأسمائها العربية وفتح فروع لها في مدن خارج المملكة لنشر الثقافة العربية - الإسلامية إلى الخارج بدل نقل قشور ومسميات الحضارة الغربية إلى مدننا خاصة أهم المدن ليس في المملكة، بل في العالم الإسلامي، وبذلك يمكن زيادة الناتج المحلي والقومي بدل تركه ينزف إلى الخارج.
قد يقول البعض إن العالم أصبح مجموعة علاقات متشابكة أو قرية عالمية تتنوع فيها المصالح، وهذه طبعاً نظرة ما يسمى بالعولمة، وهي رؤية - في نظري - تمثل التيار الاستعماري الاقتصادي الجديد الزاحف لدول كبرى (معدودة على أصابع اليد الواحدة) على حساب مصالح دول ومؤسسات صغيرة لا تستطيع منافسة ومجاراة هذه القوى الزاحفة التي تريد أن تستحوذ على الأخضر واليابس وترك الفتات للمناطق النامية والذي لا يحقق أية تنمية حقيقية فيها للاقتصاد أو الإنسان أو المكان.
وفي السياق نفسه قد يقول البعض إنه لم تعد هناك خصوصية في ظل تشابك المصالح، وهذا رأي روج له الغرب ممن يبطنون ما لا يظهرون، وللأسف صدَّقهم بعض أبناء جلدتنا، ولكن السير في هذا الاتجاه سيقود إلى التخلي تدريجياً عن قيمنا وثوابتنا وثقافتنا.
ولهذا فإن أية استراتيجية تنموية لا بد أن تأخذ في الاعتبار مصالح أبنائها وثوابتهم قبل مصالح ودعاوى الآخرين، وأن تكون هذه المصلحة عامة وليست مركزة في منطقة أو فئة معينة، وبشرط ألا تضر هذه المصلحة بالآخر وهذا لن يتم إلا بتحديد المفاهيم ووضع المعايير الدقيقة لكل مجالات التنمية من قبل جهات لا يهمها المردود الاقتصادي فقط، ومن أقدر على ذلك من الجهات الحكومية ذات العلاقة.
وأخيراً مرحى لوزارة الشؤون البلدية والقروية على هذا التوجه الحضاري الجديد والأمل في المزيد الذي سيكون نبراساً لوزارات أو إدارات أخرى في بلادنا العزيزة.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved