تنضح كثير من الأمثال العربية؛ سواء تلك التي قيلت أساساً بلغة فصحى أو التي قيلت بلهجة عامية، بحكم بالغة، ولهذا صارت أمثالاً تورد في الأوقات المناسبة لإيرادها. ومن الأمثال الدارجة على ألسنة الكثيرين: «زرعنا لو في وادي عسى وحصدنا يا ليت». وهذا المثل كما هو واضح يشمل ثلاث أدوات من أدوات التمنِّي والرجاء، ويوحي بأن قائله الأول كان مسكيناً من أولئك المساكين الذين مسَّتهم حرفة الزراعة بنصبها وتعبها اللذين لا يخفَّان فترة من الوقت إلا ليعودا أكثر حدة وإرهاقاً.
ويتفق ذلك المثل في مدلوله العام مع مدلول فقرة شعرية وردت في إحدى قصائد الشاعر نزار قباني: «لو أنَّ.. وهل تجدي لو أنَّ؟».
ولعلَّ كاتب هذه السطور يحظى بتسامح القارئ الكريم معه إذا استعمل عبارة «لو أن» في عرضه لما مرَّ بالأمة العربية من أحداث يفوق الآخر منها الأول فداحة وخطورة بالنسبة لمجريات قضيَّتها الأولى: قضيَّة فلسطين.
لتكن البداية الحرب العالمية الأولى. لو أن العرب، الذين عانوا من مساوئ تركيا بعد أن تولَّى حكمها الاتحاد والترقي التي صممت على تتريك الآخرين، وجهوا عملهم ضد هولاء فقط للحفاظ على هويتهم الثقافية، ولم ينضووا تحت لواء أعداء المسلمين من الأوربيين لكان من شبه المؤكد ألاَّ تقع فلسطين في قبضة أولئك الذين مهَّدوا للصهاينة احتلالها ورسَّخوا أقدامهم فيها.
ولو أن القادة العرب، الذين شهدوا خداع أولئك الذي من أمثلته الواضحة معاهدة سايكس بيكو، أدركوا أن ما قالوه لهم فيما بعد لا يخرج عن دائرة ذلك الخداع.. لما تطوَّعوا بنصح المقاومين الفلسطينيين بإيقاف المقاومة على أساس أن بريطانيا وعدتهم بحلِّ قضيَّتهم حلاً سلمياً لا إجحاف فيه بحق العرب. ولو كان الإيمان راسخاً في قلوب أولئك القادة لما لدغوا من جحر مرتين.
ولو أن القادة العرب، عام 1367هـ، أطاعوا رأي من قال: ادعموا المقاومين الفلسطينيين بكل ما تستطيعون، ودافعوا عن أقطاركم بكل ما تملكون، ولا تدخلوا جيوشكم الرسمية فلسطين فيتخذها أعداؤكم من المتفانين في خدمة الصهاينة ذريعة تزيد من دعمهم لهم.. لو أطاعوا ذلك الرأي لكان من المرجح جداً عدم حدوث ما حدث بالصورة المأساوية التي حدثت بها.
ولو أن قيادة دولة الوحدة بين سوريا ومصر أحسنت التعامل مع قادة ثورة تموز في العراق، سنة 1958م، لما تمكَّن الشيوعيون وأعوانهم في ذلك القطر من السيطرة على مجريات الأحداث فيه، ولما جرى فيه ما جرى من جرائم سحل ودفن للناس أحياء في كركوك، ثم ما أعقب ذلك من نكبات.
ولو أن تلك القيادة نفَّذت ذلك الإحسان لكان من المحتمل جداً أن تركز على القيام بمبادرة تؤدي إلى إطلاق أعنة المقاومة الفلسطينية ودعمها بصورة مؤثرة؛ وبخاصة أن مساحة الكيان الصهيوني حينذاك كانت غير واسعة، وقوته العسكرية غير متفوقة، والمشاعر العربية الشعبية متوهجة.. ولو فعلت هذا التركيز لكان من المرجح أن توقف قوة الصهاينة عند حدِّها إن لم تضعضع أركان دولتهم.
ولو أن قيادات فئات المقاومة الفلسطينية، التي نشطت بعد هزيمة 1967 العسكرية، أجادت التعامل مع زعامات البلدان التي كانت تمارس نشاطها فيها، ولم ترتكب أخطاء أدَّت إلى خسائر فادحة - بغض النظر عن سوء نية من انتهزوا فرصة تلك الأخطاء -.. لو أجادت تلك القيادات ذلك التعامل لكان له أثر إيجابي عظيم على مسار القضيَّة.
ولو أن المقاومة الفلسطينية كانت لديها نظرة بعيدة المدى لأفادت من حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية بعد حرب 1967م، فبدأت مقاومة جادة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحقَّقت مكاسب عظيمة في ظل تلك الحرب الاستنزافية. لكن المقاومة الجادة في داخل فلسطين لم تحدث مع الأسف الشديد إلا بعد أن خرجت مصر من معادلة المواجهة مع العدو الصهيوني نتيجة لمعاهدة كامب ديفيد بسنوات.
ولو أن العرب؛ قيادات وشعوباً، لم يرضوا بالذل والاستكانة وهم يرون جيش الصهاينة يحتل بيروت ويرتكب الجرائم بعد الجرائم دون أن يحرِّكوا ساكناً لما بلغت درجة احتقار أعدائهم لهم ما بلغته، ولما زادت سرعة مسلسل الإهانات للأمة الزيادة التي وصلت إليها.
ولو أن القادة العرب بقيت لديهم بقية من إيمان لما ظلُّوا يصدِّقون أقوال أعدائهم الكاذبة، ويعقدون آمالاً عريضة على وعودهم الخادعة؛ وبخاصة أنهم لدغوا من قبل أولئك الأعداء مرَّات ومرَّات، لا مرتين فقط.
ولو أن القادة العرب يتمتعون بقدر كافٍ من الإرادة لكان لهم من تقدير شعوبهم أولاً، ثم تقدير الآخرين ثانياً، ما يمكنهم من الوقوف أمام أعداء الأمة أقوياء رافضين للذل والمسكنة.
ولو أن القادة العرب يتَّصفون بقسط معقول من الاحترام لشعوبهم لما تركوها حائرة لا تعرف من تصدِّق ومن تكذِّب؟ إذ بلغ امتهان أعداء الأمة من زعماء الغرب؛ وبخاصة الأمريكيين، حداً كبيراً، فأخذوا يردِّدون غير مكترثين بأن هؤلاء القادة يقولون لنا سراً خلاف ما يقولون لشعوبهم علناً.. فإن صدَّقت الشعوب ما يردِّده الأعداء عن قادتها قتلها الألم من كذب قادتها عليها وغشِّهم لها، وإن خامرها شك فيما يردده أولئك الأعداء قتلها الألم من استكانة قادتها بعدم تكذيبهم لما يقال عنهم. وهكذا تكون الشعوب مقتولة بألمها وحيرتها على أي حال.
ولو أن الأمة العربية؛ قادة وشعوباً، أدركت امكاناتها المعنوية والمادية، ووقفت جادة صلبة في وجه ما تخططه الدولة التي قامت على الإرهاب، وظلت عبر مسيرتها التاريخية ترتكب الإرهاب وتدعمه، من عدوان سافر يبدأ بالعراق ولا يعلم أين ينتهي إلا الله وحده.. لما مضى مخطِّطو تلك الدولة العدوانية في اتخاذ خطوات تنفيذ مخططاتهم، ولو وقفت الأمة العربية موقفاً جاداً صلباً لوقفت معها حتماً الأمة المسلمة كلها، ولتغيَّرت أمور وأمور.
لكن المرء وهو لا يشاهد إلا ما يبعث على التشاؤم لا يملك إلا أن يردد ما سبقت الإشارة إليه من قول الشاعر نزار قباني: «لو أنَّ.. وهل تجدي لو أنَّ؟».
والله المستعان.
|