حدّقت زرقاء اليمامة فيما وراء الأفق فأبصرت جموع بني تُبَّع الحميري من مسيرة ثلاثة أيام، فأنذرت قومها، فلم يصدقوها، فكان أن اجتاحتهم الجموع.. إلخ. أسطورة أخَّاذة، لما يزل المبدعون ينهلون منها قيمة التبصر ما وراء النظر، ومنفعة الأخذ بالعِبر.. وكانت شعوب كثيرة عبر التاريخ لا تراجع مفاهيمها للحياة إلا بعد أن يحلّ الخطر ويسقط منها ملايين الضحايا وتتكبد جسيم الكوارث.. حينها تتجرأ في طرح رؤية جديدة عبرمثقفين جسورين يقاومون الطوفان..
هذا تقرير «التنمية الإنسانية في العالم العربي عام 2002م» بين أيدينا.. تقرير ذو مائة وثلاثين صفحة صادر من هيئة الأمم المتحدة، سجله ثلة من الخبراء والمثقفين العرب وبمساهمة من جامعة الدول العربية مما يصبغ عليه المصداقية وزرقة عيني يمامية جو.. تقرير رغم عدم احتوائه على جديد نجهله، إلا أنه صدم كثيراً من المتابعين، بل إن بعضهم رفضه نتيجة مبالغته القاسية في كشف المأساة وأسلوبه غير النمطي والمفارقات التي صاغها، لأنه يوحي بظلام مؤكد لمستقبل العالم العربي.. والله المستعان!! فحسب التقرير، الحريات مهدرة كأسوأ ما يكون في العالم، والرعاية الصحية متدنية، مع انحسار فرص التعليم، وفقدان الأمان الاجتماعي، واستشراء الفساد الإداري والمالي، والركود الاقتصادي والثقافي، وزيادة نسبة الفقر، والتفاوت الكبير بين المعطيات والمنجزات أو بين الثروة ونوعية الحياة.. إلخ.
ما الحل؟ ما العمل؟.. يقول المثل الإسباني: «ليس هناك أكثر عملية من النظرية الجيدة!!». ويقول بعض المفكرين العرب إن هناك فجوة كبيرة في المعرفة في العالم العربي.. تستلزم إيجاد صلات واضحة تربط المبدعين والباحثين ومحللي السياسات مع المنتجين وصانعي القرار «محمد صلاح عبود». فنحن بحاجة للعقلانية المحسوسة العملية، والفكرة الموجهة نحن فهم الحياة وتركيبة المجتمع، وهنا يكمن الفرق بين عقلانية القرون الوسطى التأملية والعقلانية الحديثة التطبيقية «هاشم صالح». ويطرح المفكر العربي هشام شرابي أنه لا توجد إجابة على سؤال ما العمل: «.. إلا من خلال الممارسة المباشرة وديناميات العمل والتفاعل بين الأفراد والفئات والجماعات..» ويرى ذلك من خلال تبني فلسفة الالتزام بما تتضمنه من عملية تغيير فكري، ترفض مثاليات الفكر المحض وتختار منطق الفعل، بينما لا تتخلى عن الفكر والحقيقة بل تجسد إرادة هادفة تحمل الفكر وحقيقته إلى الواقع المعاش.. إلى ساحة الفعل والإنجاز..
ولكن يرد البعض بأن ذلك محض تنظير وعظي ولَّى زمانه. فالألفية الثالثة بزغت ومعها بدايات ونهايات، فمن الأولى تم تجديد مصطلح المجتمع المدني، ما بعد الحداثة، العولمة.. ومن الأخرى ظهرت مصطلحات: نهاية العالم، نهاية الإيديولوجيات، نهاية الداعية أو المثقف الواعظ.. والمصطلح الأخير هو ما يعنينا في هذا المقام. حيث نجدها في كتابات بعض المفكرين العرب، مثل: علي حرب في كتابه «أوهام النخبة»، وحازم صاغية في «وداع العروبة»، وعبدالإله بلقزيز في «نهاية الداعية».. وكلها مع تفاوت فيها تشترك في فكرة أفول زمن المثقف الواعظ، تقدمياً كان أو غير ذلك.. فلا جدوى من المثقف الواعظ في عصر العولمة المرئية: «أولاً: أنظروا إليَّ، أما الباقي فلا قيمة له» (ريجيس دوبريه وجان زيلفر». ويقول علي حرب عن المثقف العربي إنه: «لا يفكر بمنطق العالم الباحث، بقدر ما يتصرف بعقلية الداعية المناضل الذي يهتم بالدفاع عن الهوية والدفاع عن الخصوصية.. فهواجس الهوية تعرقل مشاريع المعرفة..».
إنه، إذن، زمن المعلوماتية والإنترنت.. مما يعني حسب بعض المزاعم، نهاية زمن المثقف الواعظ الذي كان يعرف ما لا يعرفه العامة. فالمعلومة الآن متوفرة لدى الجميع عبر تفجر ينابيع المعلومات من كل حدب وصوب.. خلال الإعلام المرئي وتقنية صناعة الخبر وثورة الاتصالات..إلخ.
وعلى النقيض، يرى البعض أن في مقولة نهاية المثقف الواعظ تماهياً مع طرح غربي له ظروفه وملابساته المختلفة عن واقعنا العربي «تركي علي الربيعو»، مما يفسر دعوة محمد أركون إلى إحداث قطيعة جذرية مع المفهوم الغربي للمثقف، ومطالبته في سياق آخر مع مفكرين آخرين كمحمد عابد الجابري، برفض الصفة المسخ التي تلبّسها المثقف العربي عبر القرون كجلساء لإرضاء السلطان، أو كما قال أبو حيان التوحيدي في مثالب الوزيرين.. إنه البحث عن المثقف المستقل في تاريخنا كابن المسيّب وابن حنبل وابن رشد.. فحسب هذه الرؤية، لا يزال هناك دور قيادي فعَّال يمكن للمثقف العربي أن ينجزه!!
وبين البحث عن المثقف العربي المثال، المتبصر المرشد، المستقل ذو النزعة النقدية الاحتجاجية، المثقف المبدئي، الذي يصعب اكتشافه.. وبين نهاية زمن المثقف الداعية الواعظ في عصر التلفزة والصورة، تدور رحى الصراع الضروس للعالم العربي مع الأزمنة الجديدة والزمن القادم. فهناك من يرى أن الدور القيادي للمثقف قد انتهى، وعليه أن يعود إلى موقعه الجديد كعضو تثقيفي في مجاله وحسب.. وهناك من يبحث عن رأس المثقف كي يستفيد منه في جليل الحوادث، وثمة من يتربص بهذه الرأس ويرى أنها أينعت وحان قطافها جزاءً وفاقاً!!
|