هل صحيح أن الفرص السلمية قد ضاعت أمام الفلسطينيين بعد النصائح التي قيلت للرئيس عرفات بقبول «خذ وطالب»؟!
لا يزال العالم العربي يعلن أن بريطانيا كانت السبب الأول والمباشر في هموم الشعب العربي بسبب إعلانها وعد بلفور «اليهودي» المشؤوم.. هذا القرار الذي صدر في اليوم الثاني من يناير/كانون الثاني 1917م. لذلك كان صدور الإعلان المحور الأساسي الذي يشغل بال العالم العربي، ولا يزال حتى هذه الدقيقة، ولا يعلم أحد سوى الله تعالى جلت قدرته متى يستقر العالم العربي بأوضاعه المتردية بسبب هذه المشكلة.
وتعلم جميع الدول بأن هذا القرار قد أقرته الأمم المتحدة عام 1947 بدعم من العملاقين الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس ترومان الذي خلف الرئيس روزفلت عام 1945م، إذ تسابق قادة الكرملين في موسكو مع إدارة الرئيس ترومان في واشنطن للاعتراف بدولة إسرائيل قبل قيامها من خلال مصالحهما المشتركة في إقامة الكيان الإسرائيلي في قلب الأمة العربية، وفي هذه البقعة الحساسة لتشطير العالم العربي وتحول دون اتصال العرب الأفارقة وأكثرهم من المسلمين، باخوانهم في المشرق العربي، لأن من مفهوم الدول الكبرى حسب اعتقادها وتقديرها أن الاتصال العربي بين القارتين الآسيوية والأفريقية من شأنه قيام الدولة العربية الموحدة، وأن تحقيق هذا الحلم يشكل خطراً جسيماً على القارة الأوروبية غربيها وشرقيها.وقد وقف العالم العربي من قرار الأمم المتحدة موقف المعارض له خلال عدة عقود من القرن الماضي وشهدت المنطقة حروباً مدمرة بين العرب وإسرائيل كانت أولاها عام 1948 ثم عام 1956م عندما احتلت إسرائيل قناة السويس بدعم من بريطانيا وفرنسا، ثم انسحبت منها بعد معارضة الولايات المتحدة للاحتلال، ثم حرب 1967 حيث احتلت إسرائيل أجزاء كبيرة من الأراضي المصرية والسورية والأردنية مع أراضي الضفة الغربية في فلسطين بما فيها مدينة القدس والمقدسات الإسلامية فيها.
ثم قامت حرب العبور عام 1973م في عهد الرئيس أنور السادات بالاشتراك مع الرئيس حافظ الأسد واستطاعت القوات المصرية استرداد الأراضي المصرية المحتلة شرق القناة، ومنطقة سيناء، وعندها قرر العالم العربي في مؤتمرات القمة المتتالية الاعترف بقراري مجلس الأمن الدولي رقمي 242 و338 بشأن انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967م مقابل إقامة سلام دائم في المنطقة.
وعقدت اجتماعات متعددة برعاية الأمم المتحدة والدول الكبرى وشاركت الدول العربية المعنية مع إسرائيل في تلك الاجتماعات ولكن كان الموقف الإسرائيلي متعنتاً وهذا ما يهدد الأمن والسلام العالمي في منطقة الشرق الأوسط بالذات على اعتبار أن قضية العرب الأولى أصبحت بلا عدالة من الإدارة الأمريكية المساندة لدولة إسرائيل مع مساندتها للصهيونية العالمية التي تدافع عن الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية.
وبكل فخر واعتزاز للعالم العربي أن الحرب الرابعة بين العرب وإسرائيل على الجبهتين المصرية والسورية والتي بدأت في العاشر من رمضان 1393هـ السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973م وكانت إسرائيل تحتفل بيوم «عيد الغفران» فقد تعزز الوضع العربي والإسلامي في ذاك اليوم لأن عبور الموقع الشرقي لسيناء وتحرير سيناء من القوات الإسرائيلية نتج عن إيمان القوات المسلحة المصرية، عندما بدأت المعركة بترديد عبارة: «الله أكبر.. الله أكبر» حيث أعلن جنود القوات المصرية الشهادة في سبيل الله دفاعاً عن أراضيهم المحتلة، ولهذا حطمت تلك الحرب بالإيمان الكثير من المفاهيم العسكرية التي سادت المنطقة العربية وكانت نهاية الأسطورة الإسرائيلية والتفوق العسكري الإسرائيلي على الجيوش العربية فيما مضى.
لذلك اعتبر يوم العبور العربي لدى العرب بأنه يوم «الغفران العربي» بعد أن غسل وجه الأمة العربية بمياه النصر، فقد حطمت الحرب خط بارليف في سيناء واستعادت القناة لأصحابها الشرعيين المصريين، كما تحررت منطقة القنيطرة السورية.
{وّإن تّوّلَّوًا فّاعًلّمٍوا أّنَّ اللّهّ مّوًلاكٍمً نٌعًمّ المّوًلّى" وّنٌعًمّ پنَّصٌيرٍ} *الأنفال: 40* . وقال تعالى:{وّكّلٌمّةٍ اللّهٌ هٌيّ العلًيّا وّاللَّهٍ عّزٌيزِ حّكٌيمِ} *التوبة: 40*
وبكل أسف لم تحقق الأمة العربية في ذاك التاريخ الفائدة الدبلوماسية المرجوة من حرب رمضان، بل كانت الفائدة مؤقتة ومحدودة الزمن لا تتعدى سنوات من عقد السبعينات، فهي لم تستغل من الجانب العربي والفلسطيني على حد سواء وعلى الوجه الأكمل، وكان المستفيد الأول منها الرئيس أنور السادات حيث تمكن أن يعيد لبلاده الأراضي التي سبق أن احتلتها إسرائيل في حرب الخامس من حزيران وبعد زيارة السادات المفاجئة لمدينة القدس في تشرين الثاني/نوفمبر 1977م وإلقاء خطابه المشهور في الكنيست، ومد يده للسلام مع الدولة العبرية قبل أكثر من ربع قرن.فهل كان أنور السادات يعلم مسبقاً بأن العالم العربي لا بد من أن يعترف بالوجود الإسرائيلي في هذه البقعة العربية بدعم من الدول الكبرى، ومن مشاركته في انقلاب 23 تموز/يوليو 1952م مع الرئيس جمال عبدالناصر بأن ذاك الانقلاب وما سبقه من انقلابات عسكرية في سورية عام 1949م هدفها تحقيق السلام بين العرب واليهود.
لذلك قطع السادات تلك المسافة الزمنية لهذه المرحلة لتتخلص مصر من الأعباء التي تحملتها منذ حرب 1948م لأن العالم العربي كان ينزف بسبب الحروب المدمرة.والسؤال الذي يطرح نفسه هل كان الرئيس السادات مقتنعاً بعدم الخطأ في خطواته السلمية رغم المعارضة الشديدة من العالم العربي بسبب رحلته إلى القدس.وبالتأكيد أن أنور السادات الذي شارك عبدالناصر في انقلاب 1952م كان على اطلاع بأن زعيم انقلاب مصر كان سيحقق السلام مع إسرائيل عاجلاً أم آجلاً وهذا ما أعلن في واشنطن وكشف قبل شهور ماضية بأن جمال عبدالناصر كان يخطو في طريق السلم ومصالحة إسرائيل.
وكان الرئيس السادات عندما قام بجولته العربية قبل زيارة القدس قد التقى بالرئيس ياسر عرفات وحاول إقناعه وإقناع القيادة الفلسطينية وتفويضه لأن يتحدث باسم القضية الفلسطينية مع أركان إسرائيل وإيجاد حل يقبله الفلسطينيون وفق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولكن عارضت القيادة الفلسطينية طلب الرئيس السادات، وهذا ما دفعه للسير في طريق السلم لوحده.
ولكن شاهد الجميع ما قام به الرئيس الفلسطيني خلال عهد الرئيس بيل كلينتون قبل نهاية القرن الماضي وما عقد من مفاوضات سلمية مع الحكومات الإسرائيلية الممثلة بحزب العمل الإسرائيلي في عهد إسحاق رابين وتوقيع الاتفاق الفلسطيني في حديقة البيت الأبيض بين عرفات ورابين بحضور الرئيس كلينتون، وبعد اغتيال رابين استؤنفت تلك اللقاءات مع خلفه شمعون بيريز، ومن بعده مع رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو زعيم حزب الليكود ثم في عهد حكومة إيهود باراك زعيم حزب العمل وبحضور الرئيس كلينتون، والذي بذل جهداً كبيراً للوصول إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين واليهود والتوقيع عليه قبل أن يترك كلينتون البيت الأبيض، إذ بذل الرئيس الأمريكي كل المساعي ليحمل لقب زعيم السلام بين الفلسطينيين واليهود، ولكن فشل في كل مساعيه ولم يتحقق حلم كلينتون بسبب تمسك الرئيس عرفات بمواقفه.ولكن بعد التجربة المريرة بين ياسر عرفات وزعيم حزب الليكود اريل شارون وعدم الاطمئنان لسياسة شارون السلمية وممارسته العنف والقتل والتشريد وهدم المنازل للفلسطينيين أعلن عرفات بأنه على استعداد لقبول مشروع كلينتون بشأن السلام مع اليهود، ولكن قرار عرفات جاء متأخراً وفات الأوان.
لقد كان شارون مجرماً كبيراً مع الفلسطينيين، وأعلن عن رفضه لجميع الاتفاقات السابقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وشهدت الساحة الفلسطينية من جراء موقف شارون المتصلب حدوث مجازر دموية مما دفع الرئيس الفلسطيني الإعلان عن مراجعته وقبوله لمشروع اتفاق كلينتون في العام 2002م الميلادي.
وكان بعض قادة الدول العربية وقبل حرب الخامس من حزيران وعلى رأسهم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة قد نصح الرئيس عرفات بقبول قيام الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل وعندها يستطيع الشعب الفلسطيني الوقوف على قدميه ويؤسس دولته الفتية على أرض ترابها الوطني وعندها يتاح للدولة الفلسطينية أن تناضل سياسياً ودولياً وتخفف كل المعاناة التي تعرض لها الفلسطينيون خلال ما ينوف عن نصف قرن ، وقدعرض الرئيس بورقيبة هذا العرض من خلال معرفته واطلاعه على الخفايا الدبلوماسية الدولية وذلك من مبدأ خذ وطالب ويكون للشعب الفلسطيني دولة معترف بها دولياً ويمكنها الدفاع عن الحقوق الشرعية لشعبها، ولكن لم يأخذ عرفات بتلك النصيحة وانهالت الضربات المتتالية من إسرائيل والموجهة للشعب العربي الفلسطيني.لذلك نقول وبكل أسف إنه بعد النصر الكبير الذي تحقق للعالم العربي في الحرب الرابعة عام 1973م، ولكن تحول الأمر في عقد الثمانينيات من القرن الماضي إلى دولة إسرائيل حيث استغلت الظروف الدولية واستعادت قوتها الدفاعية حتى أضحت قوة متفوقة عسكرياً لا يستهان بها بعد حصولها على مساعدات عسكرية ومالية ضخمة من قوات الحلف الأطلسي وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، وعوضت كل خسارتها في تلك الحرب بل وزادت تلك القوة غطرسة على العالم العربي، وأصبح العالم الخارجي الدولي ينظر إلى إسرائيل بأنها دولة ضرورية لتحقيق مصالح الدول الكبرى في منطقة الشرق الأوسط.وثبت للعالم أجمع أن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هي الفاعلة دون سواها وهي لم تتبدل منذ عهد الرئيس ترومان عام 1945م، بل زادت تعقيداً، ولهذا تمكن شارون ولا يزال يرتكب كل وسائل الإجرام وسفك الدماء بحق أبناء فلسطين وفي كل يوم يسمع العالم عن تلك الجرائم الشنيعة ووقوع عشرات القتلى من أطفال ورجال وشباب وشيوخ ونساء وتهديم المساكن والأبنية فوق رؤوس أصحابها، واعتقال الفلسطينيين من دورهم الآمنة مع فرض الإرادة الإسرائيلية على ياسر عرفات ومنعه من الاحتفالات بعيد الميلاد في بيت لحم، وهذا العام الثاني الذي يمنع رئيس السلطة الفلسطينية من ممارسة الطقوس المسيحية في أعياد الميلاد مع العلم أن زوجته السيدة سهى هي من الطائفة المسيحية.ولكن رغم هذا الموقف المتشدد من شارون في محاولته القضاء على الإرهاب والعمليات الفدائية، فقد شهد العالم في الأيام الماضية أن العمليات الفدائية للفلسطينيين أو من مؤيديهم قد انطلقت خارج إسرائيل، ووقعت حوادث انتحارية في مناطق ذات أهمية ومنها سياحية يقصدها اليهود في القارة الأفريقية وقد أوقعت الأضرار والخسائر البشرية بالمصالح اليهودية خارج حدود إسرائيل.
(*) كاتب وصحافي سعودي |