لا يمكن أن أكون بمفردي في ذلك الشعور بالاشمئزاز والغثيان بسبب تلك المسرحية الصامتة التي تجري خارج الأمم المتحدة. لذلك يمكنك أن تنزل إلى الشارع في مدينة سومرسيت الصغيرة التي أعيش فيها لتسأل أي شخص عن حاكم العراق وسيقول لك إنه رجل سيئ بكل تأكيد وأنه يمكنه استخدام أي سلاح يمتلكه. ولكن اسأله مرة أخرى إن كان صدام حسين يمثل تهديدا حقيقيا وستكون الإجابة بالنفي.
وهذا هو ملخص ما يتكرر في عواصم أوروبا والشرق الأوسط بما في ذلك العاصمة البريطانية لندن أيضا. والحقيقة إن الشخص الجاهل أو الأحمق هو فقط الذي كان يتوقع أن يقدم صدام حسين اعترافا كاملا وصريحا بأسلحته المحظورة الشهر الحالي.
فلو كان صدام قد فعل هذا كانت الولايات المتحدة اقتنصت هذه الفرصة لتعلن الحرب عليه باعتباره انتهك قرارات الأمم المتحدة. ولكن المشكلة الآن هي أنه كلما وافق صدام حسين على تجاوز العقبات التي تضعها واشنطن تقوم الاخيرة بوضع عقبات أصعب، فقد سمح للمفتشين الدوليين بالدخول إلى كافة المواقع وقدم تقريرا عما لديه من أسلحة وسمح باستجواب علمائه وفي كل مرة يتم وضع مجموعة من الشروط على صدام حسين فإنه يوافق عليها حتى الآن ولكن بعد ذلك تضيف الولايات المتحدة شروطا أشد قسوة.
والسبب في ذلك بسيط للغاية فهذه الشروط والصعوبات لا تهدف إلى معرفة حقيقة برامج الأسلحة التي يمتلكها صدام حسين ولكنها كانت ومازالت عملية امتهان متعمدة تهدف إلى دفع صدام إلى انتهاك قرارات الأمم المتحدة أو وضعه في موقف يقوم فيه قادته العسكريون بالانقلاب عليه دون الحاجة إلى غزو أمريكي.
ما يحدث هو حلقة مفرغة وممارسة طفولية ويدمر سمعة أي شخص يرتبط به حيث يتم دفع المفتشين الدوليين ليصبحوا (ك....) للقوة العظمى في العالم التي تريد منهم افتراس الضحية حتى الموت كما تحول أعضاء مجلس الأمن إلى شركاء في الجريمة عندما ترفض الولايات المتحدة الأمريكية أن تقبل حتى قراراتهم ولا يستطيع أي منهم أن يقول لا لواشنطن وكيف لأي من هؤلاء الأعضاء أن يقول لا؟
فروسيا غارقة في بحر من دماء الشيشانيين وترحب بأي فكرة تتيح لها قهر أعدائها تحت مسمى محاربة الإرهاب! والصين تمارس أقصى درجات القهر ضد المسلمين في أقاليمها الشمالية وضد سكان إقليم التبت في الجنوب لذلك لن ترفض الفرصة التي جاءت إليها لتحويل الأضواء عن ممارساتها.
ولكن أكثر ما يثير الاحباط في هذه القضية هو مشاهدة الرئيس الأمريكي جورج بوش يعلن حكمه ووزير خارجية بريطانيا جاك سترو ووزير خارجية أمريكا كولن باول وهما يصدران «أحكامهما المعتبرة»، ولكن الأكثر من الاكاذيب التي يروجها هؤلاء الأبطال هو اصرارهم على تكرارها وزيادتها رغم أنهم لا يعتقدون أن الجمهور يصدقهم.
لذلك فهم يخرجون ليقولون إن عمليات التفتيش والتقرير العراقي لا يكفيان.
والحقيقة إن القضية هي رغبة أمريكا في تغيير نظام الحكم في العراق ولا شيء آخر إذن فغزو العراق من عدمه يتوقف فقط على الولايات المتحدة الأمريكية.
ويستطيع صدام حسين فقط أن يزيد من تعقيد الأمور لكنه لا يمكنه أن يؤثر كثيرا في تغيير مسارها نحو اتجاه آخر حتى إذا قبل هو وقادته بالتفتيش على كل المواقع المشتبه فيها وفي الحقيقة هناك تغيير ما في الرأي العام الأمريكي حيث بدأ هذا الرأي العام يعبر عن تفضيله القوي لتحرك بلاده من خلال المجتمع الدولي وليس بصورة فردية.
ولكن باقي العالم في بريطانيا والدول العربية على وجه الخصوص لا يحاولون المشاركة بأي شيء في الموضوع. ورغم ذلك يقول الديبلوماسيون أن بوش اضطر على الأقل إلى العودة إلى الأمم المتحدة بشأن العراق. والواقع أن ما حدث مجرد مسرحية متفق عليها. والدبلوماسية عموما تعتمد على الكلمات الرنانة بدلا من العمل، فالأمم المتحدة دائما ما تتحول إلى أداة في يد القوى العظمى والحقيقة أيضا أنه يمكن استخدام كلمات براقة مثل الديموقراطية بهدف الخداع.
فعندما يتم استخدام هذه الكلمات بصورة متعمدة وخالية من المضمون للتغطية على أفعال محددة تجرى في مكان آخر وفقاً لسيناريو يختلف تماما فمعنى ذلك أننا نقلل كثيرا من قيمة أنفسنا وقيمة العملة التي نتعامل بها مع العالم.
(*) عن «الاندبندنت» البريطانية - خدمة الجزيرة الصحفية. |