Thursday 16th January,2003 11067العدد الخميس 13 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شدو شدو
العرب يتفقون..!
د. فارس الغزي

على خلاف المعتاد يتفق العرب على فرضية ان الغربيين لا يكذبون. ولاشك في ان لمثل هذا الاتفاق عدداً من الأسباب المضرة بالصحة العربية غير الصحيحة.. المتوعكة أصلا. ففيه اولا هروب من مواجهة الحقيقة الذاتية الغائبة.. المغيبة.. الكاذبة.. المكذوبة.. لا فرق، وثانيا انه اتفاق غير طبيعي على شأن لا تهمنا طبيعته أساسا.. وثالثا انه اتفاق خال من الكليسترول الحضاري الايجابي المفيد، ورابعا انه اتفاق يصرخ بالقول: هكذا هي الجبلة العربية.. لا تخفق بنود ورايات اتفاق افرادها عاليا الا في حالتين: ان يكون الاتفاق غير مفيد ألبتة أو أن يكون الطرف الآخر من الاتفاق غريبا لا قريبا.
الغريب ان يحدث مثل هذا الاتفاق الجماعي العربي رغم ان الامر لا علاقة له بالسياسة ولا بنسبتها الـ99%. وما يبدو فالسلامة من السياسة لا يضمن بالضرورة السلامة، والدليل على ذلك هو ان هروب العرب من داء استحالة الاتفاق سياسيا قد اوقعهم ضحايا للاتفاق على عقدة «صدق الخواجة». فهو اتفاق باعثه ما يشعر به العقل العربي من نقص حضاري في كل مرة يعقد فيها هذا العقل لواء المقارنة بينه ونظيره الأمريكي وينتهي الامر بالفوز الساحق للنظير الامريكي اهدافا وتكتيكات وفنيات وضربات لا ركنية فحسب بل من كافة الوجهات والتوجهات والجهات.
يجب التنويه مع ذلك ان اتفاق العرب هنا لا يعني أبدا ان الامريكيين لا يكذبون. بل قد يعني ان العرب قد تعبوا من اهمال الصدق في اوساطهم الى درجة انهم اضطروا الى تصديره الى الخارج وذلك املا باعادة تصنيعه هناك ومن ثم استيراده مرة اخرى مثله في ذلك مثل اية مادة اولية تصدر رخيصة وتستورد غالية. ففرضية صدق الامريكان لم يكن ليتفق عليها عربيا لولا عوامل التعرية التي داهمت وتداهم وعي العرب بذواتهم الغائبة عن الوعي بفعل غياب الصدق. وعلى العموم حتى لو صدقت هذه الفرضية فليس بصادق من يخفي كذبه بالشهادة على صدق غريمه الغريب، والتغني بصدق الغير بدلا من البحث في اسباب عدم صدق الحال عرض مرضي والا كيف نعلل اتفاق العرب على التغني بفضائل الغير في وقت لا تسمع منهم تأبينا وتعازي حدادا على موت فضيلة الصدق التي تم دفنها تربويا في اعمق أعماق مقابر اللامبالاة الواقعة في جهة معزولة موحشة متوحشة من خارطة الضمير العربي وذلك طبعا بعد ان تم تغسيلها بدموع التماسيح الكاذبة وتكفينها بورقة توت هي أكذب من أن تستر عورة.
من الممكن القول مثلا: ان فرضية الصدق الامريكي قد تسري جزئيا هناك على قطاع واسع من المواطنين البسطاء غير انها حتما لا تنطبق على «النخبة» في اوساطهم: يمثلهم في ذلك السياسي المحترف.. «الملكع».. الكذوب جبلة.. المراوغ طبيعة.. الغدار طبعا.. «الهلاش» تطبعا.. الابتزازي جملة.. المراوغ تفصيلا.
وبهذا التعليل نكون هذه المرة قد حققنا التعادل الكاذب مع نظيرنا الامريكي الأكذب الامر الذي يمنحنا بالقياس حق تقرير ان العرب مثل الأمريكيين لديهم من الساسة من لايعرف الصدق.. ومن البسطاء من لا يعرف الكذب بل لا يعرف كيف يكذب.. حتى لو رام ذلك لفضح نفسه مثله في ذلك مثل الاعرابية .. التي صاغت المثل المشهور تراثيا القائل نصا: «شيء قليل وفضحت نفسي» واسمحوا لي بالتوقف على اعتاب نص هذا المثل فحتى لو اردت الغوص في تفاصيل بواعث صياغته بكل صدق لما تركني وسأني رئيس التحرير ذو الموقف الصادق في مثل هذا الشأن، وعلى العموم يكفيه فخرا ذلك الذي لا يعرف منا كيف يكذب فعدم اجادة الكذب شهادة صادقة على الصدق ولعمري فلقد صدق البارودي حين قال:


تعودت قول الصدق حتى لو أنني
تكلفت قولا غيره لا اجيده

ختاما: يبدو ان الصدق مع الذات سيظل السؤال المخبأ بالجهة المعاكسة من السبورة.. عليه سيظل السؤال الذي لم يطرح قط.. ولن يطرح بعد بل لن يحظى بالاجابة بالبتة السرمدية.. ورغم هذا اليأس «الصادق» ليت العرب يتوقفون عن الاهدار العبثي لغرائز «الاتفاق» الشحيحة اصلا في كياناتهم ليتفقوا بكل صدق على ضرورة مكافحة داء الكذب.. شريطة ان يسبق الاتفاق اعترافهم بالحقيقة الصادقة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved