Saturday 25th January,2003 11076العدد السبت 23 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

700 - شوكولا... «رياح التغيير»...! 700 - شوكولا... «رياح التغيير»...!
عبدالعزيز السماري

أثار اهتمامي لمحاولة فهم ملامح تغيير قادم، تفاصيل إعلان جديد في جريدة محلية، يخبر عن البدء في تقديم خدمة فتاوى على الهاتف، وتوفير خطوط مباشرة لتفسير الأحلام وخدمات أخرى كالتوعية الصحية على خدمة الرقم - (700)، وينبِّه المعلن قرّاءه خلال صفحة الإعلان عن حقيقة جديدة، وهي أن المعلومة «الشرعية»، لم تعد مجانية في البرنامج، وأن تكلفة دقيقة المكالمة الواحدة صارت تتراوح بين ثلاثة وسبعة ريالات سعودية...!
ولسبب ما.. لم يقف تأثير الإعلان عند حدود إثارة فضول لمجرد قراءة متأنية، بل راحت معانيه، تبحث في ملفات ذاكرتي القديمة، وتعيد لي صوراً ومشاهد من شريط فيلم سينمائي «أمريكي»، عنوانه «شوكولا»، تابعت أحداثه منذ عامين على شاشة إحدى رحلات الخطوط الدولية، وهو أحد الأفلام التي كانت مرشحة لنيل جائزة أوسكار الهوليوودية لعام 2000م.كان الفيلم يحكي قصة امرأة وابنة لها «غير شرعية»، جاءت بهما رياح التغيير إلى قرية فرنسية محافظة، لتبدأ بعد وصولهما مغامرة من نوع مختلف، في الشكل والمضمون، تتماشى مع ذهنية العقل الهوليوودي في السينما الأمريكية، ومكر الغزو الليبرالي الجديد للعالم، والذي كان رمزه في الفيلم، وما أوحى به سلوك تلك المرأة «الخارجة» عن تقاليد القرية، والتي قررت بعد وصولها أن تفتح محلا صغيراً في أحد أركان القرية لبيع «الشوكولا»، ومنه بدأت ملامح التغيير في القرية، وحكاية الشوكولا التي صد مذاقها اللذيذ ضراوة هجوم رموز الحفاظ على التقاليد والأصول في القرية ضد وجود المرأة «المذنبة» والمخالفة لتعاليم الدين، وقاوم سحر لونها وأناقة أطباقها الشهية صلابة دعواتهم المتكررة في التحذير من الوقوع في أسر مذاقها الأخاذ، ومن الجري وراء أهواء النفس وميولها الشهوانية، وهو ما يعني إن حدث، الرضوخ لشرعية وجود المرأة وابنتها في القرية، ولكن.. لم تصمد هجماتهم الشرسة أمام ردة فعلها، وطعمها اللذيذ، وسهولة ذوبانها في الفم، فهدم سحر مذاقها سدود المقاومة، وأسال لعاب «رموز» القرية المحافظين، فكسر قيود التحفظ ومنابر العداء للغرباء والغجر والمتحللين من قيود ثقافة القرية المحافظة...
ولم تكن قصة الفيلم مجرد رواية عابرة لأحداث في الهامش، بل كانت تحمل معاني أهم فصول معركة الليبرالية مع دعاة الحفاظ على القيم والأصول المتوارثة، والليبرالية التي قاعدتها «الإنسان ذو البعد الواحد»، هي الأرضية التي تكرس فرضية، «لا يقود الإنسانية إلاّ سيدان.. اللذة والألم»، وهي الفلسفة التي تنطلق من مبدأ تحريك الغريزة، وتجنيد شهوتها لا شعورياً للقيام بدور المحرك الخفي في مهمة التغيير من داخل أحشاء المجتمع المحافظ، «فكل فرد يبحث عن مصلحته الشخصية، وعن مكسبه هو فقط»، وعن مقدار الثمن، الذي سيحدده بالطبع السوق، ليصبح المال هو القاسم المشترك، وأداة القياس «الأهم»، ودور الغريزة والجري وراء المتعة اللحظية هو مربط فرس الربح المادي، والذراع الأمضى تأثيراً في حركة السوق..
والليبرالية نقيض دائم، وعدو حتمي لرسالة المنابر ودعوات الحفاظ على القيم والأخلاق الحميدة، والمهمة المناطة بدوافع البحث عن اللذة والمصلحة الشخصية، هي إزالة أي عائق أو أصل يقف ضد حركتها الدائبة، وذلك من خلال إدمان نشوة لذتها الدنيوية، والتعود على وهج بريقها الجذاب، أما مضمون رسالتها الحقيقة في المجتمع فهو زيادة رأس المال، واستمرار تدفق العائدات، وتحطيم أي قيود تقف ضد تيار الربح المادي..
ونهاية الفيلم إياه انتهت بانتصار مذاق الشوكولا واللاشرعية على مقاومة التقاليد ودعوات المحافظة على الأصول، لتصبح ردهة «المحل الصغير»، ميداناً للحرية الاجتماعية على الطريقة الليبرالية، يختلط في ساحته، المحافظ المتحول حديثا بفعل الشوكولا الساحر، والغجري المتحرر سلفا من قيود المجتمع المحافظة، و«تسبح» في أجوائه، رائحة الشوكولا الساخنة، وتسيطر على مبادئه تعاليم «الغريزة»، التي حملها جناحا الريح مع المرأة وابنتها المكتسبة «للشرعية» حديثا، بعد سقوط منبر الأصالة في مصيدة اللذة والنشوة والسعادة الدنيوية..
وربما يمثل «الرسيفر» في زمننا المعاصر، رمز المرأة التي قذفتها الريح «إياها» على القرية المحافظة، والذي ما لبث أن رضخت مقاومتها إلى جاذبية ما ينقله عبر الأثير من برامج وأحداث ومشاهد، والبنت غير الشرعية في الجهاز العجيب، هي قنواته العديدة والخارجة عن الأصول في عرف المسموح بمشاهدته محلياً، وبمرور الوقت، نالت (أي القنوات المختلفة) شرعيتها بدون عناء، بعد أن هزمت مقاومة هشة، لتصبح بعد زمن قصير نسبياً، لذة من لا هوى له، وسهرة من لا قدرة لديه.
وعبر نافذة «الرسيفر» الفضائية، طلَّ الرقم سيئ الذكر (900)، يعرض خدماته المباشرة بدون قيد أو «ستر»، ومنه تم استنساخ الرقم (700)، وهو بالمناسبة لا علاقة له على الإطلاق بالرقم سبعمائة في الحديث الشريف.. (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة صعف)، والذي فيه دعوة صريحة لعمل الخير وتقديم العمل من أجل الأجر والثواب المضاعف بإذن الله سبحانه إلى سبعمائة ضعف، بينما خدمات الوافد الجديد (700) مختلفة، فهي قد تقدم المعلومة العامة المجانية والنصيحة الشرعية الضرورية، ولكن بثمن، وبتكلفة مادية، قد تتضاعف إلى أكثر من سبعين ضعف السعر العادي للاتصال الهاتفي داخل المدينة، ولتصبح تلك الخدمة الوافدة عبر الأثير، وسيلة سريعة للربح المادي السهل من خلال أغراض إمّا مشبوهة، على طريقة اتصل.. تربح أو من خلال بيع المعلومة الضرورية لمتطلبات الوعي الجديد.. والتي من المفترض ألاّ تحتكرها رغبة الربح المادي، وان يتم نشرها تطوعاً بالمجان في مجتمع يعاني من أزمات التعليم، ويفتقر لوسائل نشر الوعي باللغة العربية....وبسبب هذه القفزة الخاطئة في الهواء، أصبح الرقم (700) الشوكولا التي تدر ذهباً على المتحولين الجدد في مهب الرياح الغربية..، والوسيلة التي تهيئ اغراءاتها للكسب بلا حدود، وبلا مبادئ، والشباك الذي سقط في مصيدته بعض الرموز، الذين اعتادوا في الماضي الوقوف ضد إغراء شيطانها الشهواني، لكن نشوة كسبها السريع هزمتهم في عقر دار الفضيلة، فصار الرقم منبراً بلا عمد، والواقع أضحى حلماً كبيراً، يبحث عمن يفسر مشاهده الضبابية وأحداثه الغريبة، ولكن... احذر عزيزي القارئ، ليس من خلال استعمال وسيلة الاتصال «بمفسر أحلام» على الرقم 700..، فهي خدمة فقدت عذريتها، بعد أن جرفتها رياح التغيير.. وفضحتها فلسفة البعد الواحد في صراعات الكسب والخسارة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved