Monday 27th January,2003 11078العدد الأثنين 24 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

القبيلة والمدنية القبيلة والمدنية
د. عبد الرحمن حبيب

«أعلم ان اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه ونشيط قبل الحاجي والكمالي» (ابن خلدون). أو بمعنى آخر، حسب هذا المنطق، ان أساس الوضع الحضاري لأي أمة يستند على وضعها الاقتصادي وسلوكها المعيشي (نمط ووسائل الإنتاج) مما يتولد عنه اجتماع أفرادها في تنظيمات وتكوينات مجتمعية.
أما الأدبيات الكلاسيكية العربية في الفكر والسياسة فقد دأبت على إلقاء اللوم على الاستعمار وبقاياه (العامل الخارجي) وعلى الحكومات، عندما تتناول تردي الوضع العربي بصورة عامة وأزماته السياسية بصورة خاصة. ان تعميم هذا المنطق التبسيطي قد لا يجدي في تفسير التفاعلات التاريخية والاجتماعية حول تكوين الوضع العربي وما استقرت عليه انظمته ومجتمعاته، فقد أعطت هذه الأدبيات مسألة البُنى والتكوينات المجتمعية وأدوات إنتاجها تأثيراً ثانوياً. وأزعم ان الأزمات التي تعاني منها المنطقة العربية أساسها هو أزمة جوهرية في بنى المجتمعات العربية ذاتها. «إن من أهم متطلبات تصحيح الوعي بالأزمات الضخمة التي تواجهنا هو الوعي بالذات وبالواقع المجتمعي والسياسي لنتمكن من تفسير معضلات السياسة العربية قديمها وحديثها. وقد يتطلب الأمر إعادة النظر في كل تاريخنا القديم والحديث في ضوء علم الاجتماع الخلدوني الذي يحاول د. الأنصاري الاستفادة منه ومزجه بالمناهج المعاصرة في تقديم رؤية جديدة في كتابه «التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام» (خليل حيدر).
إن إحدى المعضلات التي تواجه كثيراً من المجتمعات العربية هو الفشل في الانتقال من طبيعة المجتمع ذي التنظيم القبلي، ريفياً كان أو بدوياً، إلى المجتمع المدني المنشود. فقد استمرت سطوة ونفوذ القبيلة لحقب طويلة نتيجة الاضطرابات السياسية التي عاشتها المنطقة العربية منذ مئات السنين حتى منتصف القرن المنصرم، فكانت القبيلة خير ملاذ ومدافع عن حقوق أفرادها في الريف والبادية وبعض الحواضر التي تضعف فيها السلطة المركزية: ولولا هذا الشعور القبلي لما كان في وسع الجماعات والأفراد ان يدافعوا عن انفسهم ومصالحهم، فالعصبية القبلية بهذا المعنى هي البديل الذي لا بد منه للرابطة القومية، ولكن في حيّزها المتطرف (أحمد الواسطي).
كما ان هناك عاملاً آخر لا يقل أهمية وهو الصحراء التي تشكل 90% من مساحة العالم العربي. يشبه شارل عيساوي المنطقة العربية نقلاً عن موريس أبو ناضر: «بأرخبيل من جزر صغيرة من الأرض المزروعة والمحاطة بمساحات شاسعة من الصحاري، وعادة ما تغرف تلك الجزر في المحيط الصحراوي.. كان من السهل على الزراعة ان تتدهور، وكان من الصعب ان تعود إلى سابق ازدهارها.. الأمر الذي أدى إلى تدهور حاد في قدرة المناطق على تصدير المنتوجات.. باستثناء الشريط النيلي بمصر، وبعض أجزاء الرافدين في بعض العصور».. وهذا أدى إلى: عدم الاستقرار لضعف بنى الإنتاج الاجتماعي، مما نتج عنه تخلف التنظيم الاجتماعي (سمير أمين)، وإلى صراع مستمر بين البداوة والتحضر (موريس أبو ناضر)، وان البوادي اكثر اتصالا فيما بينها من الحواضر (منيف الرزاز)، وإلى كون الصحراء عامل التجزئة الأول قبل الاستعمار (محمد جابر الأنصاري) ومن ثم سيطرة الوافد العسكري الرعوي الآسيوي التركي لحقب طويلة من الزمن، فعمل ذلك مع البداوة العربية القادمة من الصحاري الداخلية، على إنتاج السلطة القتالية لا الحضارة المبدعة، فما تنتجه البنية الحضارية تستهلكه السلطة الرعوية غير المنتجة.
والقبيلة بمعناها الأولي، أي وهي تمارس حياة البداوة في الصحراء تحتم الحاجة إلى التضامن والاشتراك في المنافع ودفع الغوائل مما يضطر أفراد العشائر إلى التكاتف.. فتتولد النخوة (مصطفى حسنين، عباس العزاوي)، ورغم ان توطين البدو أصبح أمرا واقعاً فإن المهمة الأصعب والأكثر تعقيداً هي تحضير العشائر البدوية أو الريفية المستقرة عبر خطط مدروسة تراعي أعرافها وتحترم عاداتها وتقدم خدمات حقيقية (وليس شعارات)، وتنتقل بها تدريجياً إلى المجتمع المدني. أما اصطناع قوانين ارتجالية فوقية وشعارات براقة تفتقد للمصداقية، يتم اصدارها بطرائق قمعية حينا أو عشوائية حينا آخر لتستأصل أو تبدِّل التنظيمات التقليدية بأخرى حديثة من جمعيات واتحادات ونقابات، دون تهيئة المناخ للتغيير والاعتناء بالنسق الجديد وتفعيل أدائه مع استيعاب النمط القديم داخل هذه المنظومات وليس عزله وتركه يتفرخ ويتبرعم في موقع آخر ليظهر فجأة في مرحلة تالية. وحين يجدُّ أوان الجَّدِّ وتستيقظ فتنة نائمة أو أزمة طاحنة تظهر التنظيمات القديمة بكل عنفوانها السابق، ولطالما رأينا أفراد الحزب الحاكم، في بعض الأقطار، يلجأون عند الاحتراب كلٌّ إلى تنظيمه القديم (عشيرة، إقليم، طائفة)، وصار البديل المستحدث مسخاً مشوهاً أسوأ من سابقه، وهذا قد يفسر من بعض الجوانب كيف تحولت تنظيمات حديثة إلى مسوخات محزنة أو بيروقراطية رثَّة.
إن التهيئة للانتقال إلى المجتمع المدني والانتقال نفسه لن يكونا متيسرين دون توفر العديد من العوامل، منها تلافي السلبيات التي أشرت إليها سالفاً، وذلك بتأسيس وعي حضاري ثقافي تطبيقي (واقعي) بمهمة تلك المؤسسات الاجتماعية كأحد العناصر الرئيسة للمجتمع المدني، مع ربطها بعمليات إنتاج حقيقية لكي تحقق تلك المؤسسات أهدافها ومن ثم فعاليتها ومصداقيتها، وبالتالي تكون بديلاً أفضل من التنظيمات السابقة. ومن هنا تبرز أهمية الصناعة ومعها نشر الوعي الصناعي، فالحضارة الصناعية هي سمة عصرنا الحديث، وهي الوسيلة الأساس للتطور الحديث بما تحمله من طبيعة تغييرية مستمرة في وسائل وعلاقات الإنتاج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مقابل الزراعة الريفية وطبيعتها الهادئة القانعة أو البدوية وطبيعتها الثابتة. بيْد انه يجب ان تكون ثمة إمكانات تعين على ايجاد ذلك الوعي الصناعي وعلى قيام التصنيع ذاته (مصطفى حسنين). إن ايجاد البدائل عن المؤسسات العشائرية بالتوسع في مؤسسات مدنية وأهلية هو حق من حقوق الأفراد والجماعات لحمايتهم والتعبير عنهم إزاء الدولة وجهازها البيروقراطي، بحيث تنشأ هذه المؤسسات عبر رغبة تحتية من فئات اجتماعية ومظلة قانونية شرعية وموافقة النظام السياسي.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved