Thursday 30th January,2003 11081العدد الخميس 27 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أعراف أعراف
ثقافة السلام (2)
محمد جبر الحربي

في يوم لا ينسى ، أواخر الثمانينيات الميلادية، كنت مدعوا للمشاركة في معرض الرياض بين الأمس واليوم، جالسا اتصفح الجرائد في بهو فندق، في قاهرة المعز، مستمتعا بفنجان قهوة الصباح الأول، كما عودني الشعر، وعلمتني الحياة.
متبادلا البسمات والتحايا مع الأصدقاء الذين يتشكلون مع كل زيارة، ويشكلون لك بابا آخر على المدينة، وهم مجموعة من موظفي الاستقبال، ومقدمي القهوة، وموظفي الخدمة، والبوابين، وسائقي التاكسي والمعتنين بالحديقة، ومشذبي الاشجار، الى ان يبدأ اليوم بمواعيده، الى ان تبدأ القاهرة بضجيجها العذب، الى ان تبدأ سيمفونية الحياة.
كان البهو مزدحما صاخبا على غير عادته في ذلك الوقت الباكر، بحثت عن مصدر الازعاج، فاذا بمجموعة سياحية اسرائيلية، يسهل تمييزها بالسحنات، والشعور، والملابس والنجمات وحزنت لصديقي «جمال»، الذي أحضر لي فنجان قهوتي ال«مخصوص عشان حضرتك» قبل قليل، وهو يحاول ارضاء رغباتهم التي لا تنتهي جيئة وذهابا، وبأدب مصري جم.
كانت قصته قصة معظم الشباب المصري يعمل، ويكمل دراسته، ويعول اسرته الكبيرة.. ويسكن في القلعة. وكان مجتهدا، طيباً، لا تفارق البسة وجهه المتعب، كما كان غاية في اللطف والادب.
اهدتني لجنة المعرض مجموعة من المصاحف لاهدائها لبعض الادباء، فأهديته نسخة طبع قبلة عليها بفرحة القاصد ديار الرسول.
وعاملني بعدها باحترام غامر، ودعاني لزيارة بيته واسرته وعاملته قبلها وبعدها كمثال نادر.
طويت جريدتي، واخذت اراقب بفضول، هذا الجمع الذي أثار استغرابي، واستهجاني، فقد كانوا يلقون بكل شيء على الارض المناديل، وزجاجات الماء الفارغة. ويزعجون الجمال بأصواتهم العالية، وفوضاهم، وقهقهاتهم التي لا تشك بأنها مقصودة.. وقد سألت نفسي حينها: هل التخريب سمة يهودية؟! وهل يحل الخراب اينما حلوا؟!
بعد ذلك، ومن بين هذا الجمع علا صوت السيدة المسنة البدينة البشعة، والله كانت بهذا الشكل لم انقص ولم ازد وكانت تجلس في الطرف الأقرب لي، وتتحدث الانجليزية بلكنة يغدو شارون معها معلما، بل لعلها كانت تشبهه، بل لقد كانت تشبهه تماما.
كانت توجه حديثها الى جمال. تبادره بابتسامة وطلب، ثم اذا ما غادر الطاولة شتمته كمصري، ثم ثنت بالعرب.
تكرر الموضوع للمرة الثانية، فوجدتني، دون شعور، او بكل شعوري، اذهب الى جمال، والمدير المسؤول عنه، واروي لهما ما يحدث، وأنا انظر اليها.
كثر الهرج والمرج، وعلت الأصوات، وكادت الأيدي....
تدخل الامن، وسحبني من المعمعة برفق وادب ملحوظ رجل ستيني، فارع الطول، مهيب، دعاني لتناول فنجان قهوة معه. شكرته واعتذرت.
عرفني بنفسه: جنرال متقاعد في القوات المسلحة عرفته بنفسي فأصر على فنجان القهوة. جلسنا، ومضت العجوز جولدا وكلابها في حالهم.
حدثني عن السلام، والسياحة والاستراتيجيات، والفقر والدولارات حدثني عن البدائل والخيارات، الراهن والمستقبل وموازين القوى.
بعيدا بين حين وآخر، وببسمة لا أزال اذكرها: «إنت زعلان ليه»!!
وحدثته عن العدل والظلم والميل، وعن المقبل من الليل. عن اليهود، وسراب الوعود، ونقض العهود. عن الحقد الذي ما انجلى، والنيل الذي ما ارتوى من الماء وحروب الماضي، عن القضية من الالف الى الياء، عن الحقيقة والخيال ثم ناديت يا جمال: حضر، وكان كسيرا مكلوما كما كنت قرأت حزني في قسمات وجهه المتعب الاسمر، وعينيه الحمراوين من الذل والغضب، وصعوبة لقمة العيش. قلت لصاحبي هذا هو المثال.
فأصر على دفع الحساب. ودعته شاكرا، وصعدت الى غرفتي. اغلقت الستائر والصباح، وألغيت مواعيد النهار، ونظرت في المرآة طويلا، وبكيت حتى دميت.
أنقذني الهاتف في المساء. ركبنا «الميكروباص» الى «بنها» كانت امسية ريفية لعدد كبير من الشباب المصري والعربي، قصائد تصر علي الحياة «إذا استطاع اليها سبيلا»، وأغان لاحمد خلف: لا تصالح، الكعكة الحجرية، ومنتصب القامة أمشي.
ثم عدنا الى القاهرة، نمشي بمحاذاة النيل، والارض العظيمة تحت اقدامنا لا تتكلم الانجليزية بلكنة عبرية، او اوروبية شرقية.
لقد كانت، ولا تزال الأرض «بتتكلم عربي الأرض.. الأرض».

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved