Thursday 30th January,2003 11081العدد الخميس 27 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

حسن صيرفي حسن صيرفي
قراءة لجغرافية «إنسان»
محمد الدبيسي

أرمي الى تخطي تخوم الانبهار.. ولذة الدهشة.. الى ما أحسبه موضوعيا.. في التعاطي الكتابي.. لشخصية. تجمع بين ما ينزع عليها وصف الاستثناء والرصيد الضخم.. من التفاصيل التي وعاها عنه غيري.. موقعاً مسافة بينية.. ما بين وصفه الثقافي المهمل.. ومسافة الإنساني المعايش والدائم.. وديمومة نزعته العنيفة.. الى الاحتماء بعمق الخبيئة ونورانيتها.. وعظمة القناعات.. والقدرة على تمثلها..!
ذلك «الحسن» الصيرفي»
المعرفة.. التي لا يمكن لك أن تعبرها.. باحثاً عما هو أجدى.. وأصدق..؟
يضعك في مشهد تستعيد فيه ما يشد النورانية.. في داخلك..؟ الى ترجماتها وبرهانيات تحققها..!
لا يمكن أن تعبره.. لأن ثمة خيطاً دقيقاً يشد أزر تداعي وهنك الواقعي.. الى متعاليات المثالية الغابرة.. فيما تعيه.. والحاضرة فيه «هو»!
ولا يمكن أن تعبره.. لأن الزمن من خلاله يفضي بك.. الى فضول استقصاء الإنسان والحياة والمكان.. من خلاله..!
لا يمكن أن تعبره.. لأنه يعيد الى فوضى انبهارك.. يقين وجودها.. يجسد لمزق ما كونته بدءاً.. لحمة بشرية.. تقفز من الأرضية الى الكونية.. بتلاقي بداهتها وفطريتها - المترجمة فعلاً -.. مع قرارات وعيك بالنموذج المثالي الذي لا يتكرر..؟
أو يقرب من أن يكون مستحيلاً..؟؟!
وها أنت.. تبدأ في استدخال المكان..
وتهجي ملامح شخوصه المعاينة.. إذا ما عرجت شمالاً.. من أول طريق العيون.. ودلفت الى «الزقاق» الرابع شمالا.. حيث «أرض الفضل»(1) .. شرقي «ثنية الوداع»(2) لتبدأ.. في استجلاء أفق المكان.. بناية تتكون من أكثر من أربعة أدوار.. وبنايات متراصة..
ولتلمح شخص «الرواشين»(3) تأبى أن تلين للزمن.. تزين الشبابيك.. بفنيات تكوين خشبي.. تعرفه «المدينة المنورة».. وصار علامة مائزة في معمارها..
يعكس ترابط وتشابك أركانها.. مدى وحدتها..وتكتلها في لحمة معمارية.. تستجيب لتكتل الساكن «الإنسان».. حيث هو محرك فاعلية الشكل المعماري ومنفذه..!
ومن يقصد «الشخص/ الإنسان» هنا.. لابد أن يسترجع في داخله فيض المكان.. فذلك الجزء من المكان.. يربط وعي الذاكرة بالمكان الكلي.. «المدينة المنورة» حيث يتماهى الجزء بالكل.. مثلما سيتماهى الإنسان.. بهما لاحقا.. فهذه العناصر.. تكوينات لوجود ليس عابراً لمن يستكشف قدامة المكان الممثلة لجمالياته.. ومكوناته المتذوقة بالبصيرة.. والمرئية بكل الحواس.. فمن المكان «الجزء».. تبدأ علائق الارتباط.. بالتكون.. والتلون.. والظهور والجزء «أرض الفضل» هو.. كنه الملامح القديمة لكل المدينة..
وعندما يجذر الإنسان العلاقة الأمومية بينهما.. بضرورة شرط الوجود فإن ثمة حضور غير عادي.. وغير عابر سينال الاهتمام.. والتبصر.. والقراءة.. وكأن الوحدة الحميمية المتضامة.. التي تشكلها البنايات..!.. مظهر خارجي.. لتضام وحميمية العمق الإنساني الداخلي.. والذي يمثله ساكنوها..
.. يقطع تأملك الحالم؛ تداخل أصواتهم بالتحية والسلام..وتجمعهم أمام المنازل.. لإضفاء أنس بشري على روعة المكان..! تدلف.. إلى منزل العم حسن صيرفي وصالونه.. لتقتعد.. مكانك على كنب وثير..
حفت جوانبه وأطرافه.. وقوائمه بتعرجات خشبية.. تهجس بالعتاقة والنمط الزخرفي القديم.. المحفز على استرجاع ثمالة الذاكرة..!
وأمامه طاولات.. تعتليها طبقة الرخام القديم تشي ببقايا مزاج أرستقراطي.. وشفرة لترف معيشي لم يختره «العم حسن»، ولكن قدره أراد ذلك..!
جنبات الصالون.. مزّينة بصور للمدينة المنورة قبل ستين عاما وقائمة بأسماء رواد.. منتداه الثقافي.. «الفيروزية»(4) وأرقام هواتفهم..
أما مكتبته.. فيحيل استعرض الأول لمحتوياتها..الى الشعر والتاريخ والتراث، وقد احتلت صدر الصالون.. مؤكدة امتداد عمرها.. وعنادها للفناء والجمود..!
مصطبغة بحيوية صاحبها وربيبها «حسن صيرفي» ليهلل «العم حسن» مرحباً.. مصراً على الوقوف بهمة احتفائية بالغة..!
وذاك ديدنه الأبدي مع كل من يسلم عليه..!
كهل طوى عنق التسعين عاماً..
وقار سنين.. وجلال تجربة..
بشاشة طفولية.. وسمت رجولي..
لطف في الحديث.. ومحاورة.. بارعة..
عفوية النقاش.. وسماحة في قبول الآخرين..!
يتحدث العم حسن.. فتصغي للتاريخ يتحدث..!
ذاكرة يقظة.. كيقظة نبله.. ومروءته..!
يحدثك عن الشعر.. والأدب.. وتاريخ المدينة المنورة.. ومقامات الموسيقى.. وتاريخ الصحافة.. يتقن سرد نشأتها بوثوقية غريبة..!
إذ عاصر نشأتها.. ممثلة في جريدة «المدينة المنورة».. وكيف جلبت مكائن طباعتها من القاهرة.. قبل أكثر من ستين عاما..!؟ الى ميناء ينبع.. ثم الى المدينة.. وكيف ربطت كل قطعة.. من أجزائها بقطعة من القماش.
مرقمة.. حتى يستطعيوا ترتيبها.. وتركيبها وتشغيلها وكيف فاتهم ربط احدى القطع..؟ واحتاروا في تركيبها..؟
فاستعانوا «بالدرندي».. أحد أبناء المدينة المنورة.. الذي كان بارعاً بتشغيل كل أنواع المكائن..
ثم كيف صدر العدد الأول من جريدة المدينة.. وهو هنا لا يسرد وقائع.. بقدر ما يستحضر علامات سجلت حضورها في تاريخنا الثقافي..
ويعيد نثر.. قصة كفاحها.. معلياً من شأن إنجازها بلغة نضالية..!
يحاول أن يصور لمستمعه.. بأنه ناقل وصفي لمجرياتها..! بالرغم من أن هذا الدور.. يعلي من «أنا» الصيرفي.. مفهومياً.. وهو ما يحاول عدم الإشارة اليه.. وقد ذكر لي الأستاذ الدكتور محمد العيد الخطراوي بأنه لا يوجد من يعرف تاريخ المدينة خلال السبعين عاما الماضية.. شخص بمستوى إدراك وأهلية حسن صيرفي!!..
أفضي الى عالم حسن صيرفي بالكتابة التي لا تسقط على عوالمه مثالياتها..! بقدر ما تتمثل تلك المثاليات من تفاصيله.. ذلك أن الأفق المتحرك.. لحسن صيرفي يسيجه في خانة المهمل كتابياً.. والمتواضع ثقافيا.. وبذلك تتخذ هذه الكتابة «حسن صيرفي» وسيطاً.. ينقلها من حالة غير الموجود وغير الممكن..؟ الى حالة المدون الوصفي.. والحالم طوباوياً بأن يرتقي بالوصف.. الى جلال الموصوف.. والصفات التي لا أنزعها عليه حباً.. واندهاشاً وإكباراً.. وإنما أعيد تشخيص مادتها عبر استقراء خاطف لمسيرته..!
لا يرتقي الى جادته الاستثنائية.. بوصفه مثالا انسانيا نادر الوجود..؟ وإنما لضرورة ا لحاجة الى تعاليه الغيري.. في عالم يضج بالرخيص.. ويحفل بالخيلاء.. ويعيد تكريس الضوء.. بممكنات غيرية.. لهامش معتم..! ولذلك فحسن صيرفي.. تلك الإمكانية الراقية للمثال الإنساني.. النادر الوجود.. يتحدث عن المدينة وتاريخها القديم.. وتحولاتها المعاصرة وأنماط حياة مجتمعها.. كما عرفهم.. معرفة المعايش والخبير.!
فيؤكد حديثه أهليته، لأن يكون النادر والاستثناء والذاكرة المتحركة.. للمدينة وانسانها.. وسيرتها الداخلية ونبض روحها المستديم.. ومالا يستوعبه التدوين..! يتحدث عن أحواشها.. وأزقتها.. وأسباب تسميتها.. وعن مخارج ومداخل تلك الأحواش والأزقة.. وأسماء من يقومون بإشعال «أتاريكها»(5) عند مغرب كل يوم.. وعن «سقَّاواتها» وأماكن جلبهم للماء.. وتحدث عن أعيان المدينة ورجالاتها.. وأبنائهم..ومن مات منهم.. ومن لا يزال حياً..
وتحدث عن «أسرة الوادي المبارك»(6).. واجتماعاتهم ومسامراتهم.. على ضفاف وادي المدينة المبارك.. «وادي العقيق»..
أحسست برهبة الاستماع.. وحميمية اندلاق العبارات من فيه..
وإيماءات بعينيه أثناء الحديث، وعندما يشد على يدي بيده.. أثناء حديثه.. ودهشت.. لهذه الذاكرة المزدحمة بالأحداث والشخصيات.. والمواقف..
ودهشت.. لهذه القدرة على الحديث والعناية بذكر التفاصيل.. أزمنة شتى لاحت...!
وأزمنة حضرت..
وأزمنة أحاول
أن أستعيدها
أثناء حديثه..؟
أحاول أن أرسم جغرافيا لأمكنته فيما وعته ذاكرتي..! فألفيت ذاكرتي.. ضئيلة.. أمام انهمارات «العم حسن» أدركت.. كيف يكون الرجل عظيما.. بعظمة تاريخه.. وعظمة ما يحتويه.. وما يمثله وهجست.. كيف تعتقت في ذاكرة هذا الرجل.. كل هذه الحيوات؟
أشخاص.. يدخلون.. ويسلمون عليه.. شيوخ.. شباب.. وأطفال..!
علمت من ثالثنا «نايف فلاح» الملازم الشخصي «للعم حسن» منذ اثني عشر عاماً.. والبصيرة الحاذقة في وعي الناس والأشياء.. وقارئه.. بعد أن عيت عينا «العم حسن» عن القراءة..! أن ثمة.. شبابا وشيوخا.. بسطاء.. وعاطلين عن العمل فتح لهم أبواب منزله.. للإقامة والسكن.. ويعيلهم.. مأكلاً وملبساً.. ومأوى..! بلا مقابل «مادي» سوى ما يرجوه من الله..! في أكثر من بناية يمتلكها «العم حسن».. أُسر.. وأفراد.. وعوائل.. يقيمون.. دون أن يتكلف العم حسن سؤالهم عن المقابل..!
بهذه الروح يعيش العم حسن.. ويحيا.. يتنفس نقاء من حوله..
يتسامح في التعامل مع الآخرين.. للحد الحقوقه.. فيه حقوقه..؟!
«كاريزما» استثنائية تلك الثالثة لها ويتمثلها العم حسن في الألفية الثالثة..!؟!.
اصطحبناه في السيارة.. وقطعنا المسافة من «أرض الفضل» «المناخة»(7) «العنبرية»(8) «الهاشمية»(9).. الى مدخل حي قباء..!
حملق ملياً بالبنايات في حي قباء.. وقال:
كنا ندخل هذا الحي.. لنستمع الى خرير المياه في قناطرها.. وصوت مكائن الضخ وأصوات العصافير.. رائحة الأشجار.. وتمايل أغصانها مع هواء منعش يهب في بدايات نوفمبر من كل عام..!
وكان قد جسد ذلك في شعره وفي قصيدته «على أطلال التاجوري» وصور حيوية تلك المشاهد.. وباستبصار حاذق لتفاصيلها الصغيرة.. وهوامش مشهدها بحدس شعري.. يعكس مدى استدخاله الرهيف.. ومعايشه الممتزجة بحيوية تكوين تلك المناظر.. ويؤكد ذلك.. كيمياء تكوينه النفسي التي تحتوي ضمنياً كل ما يراه .. ويتماهى معه بشكل لافت..!
كانت هذه المنطقة.. مزارع نخيل ونعناع وعنب.. وصولاً الى «حي العوالي وقربان»
تلك المدينة القديمة.. تتعانق فيها ذوائب النخيل.. ورواشين.. تخبئ وراءها.. معنى آخر للحياة.. قبل أن تغتالها كتل الأسمنت المسلح.. ويمسخها صمت النوافذ المغلقة..!.
.. عندما يتلو حديثه ذلك.. تند في مضاميه أساسات موضوعية ندية.. لمفهوم ارتباط الانسان بالمكان..
بالقدر الذي يستحيل فيه الأول.. جزءاً مكونا لسيرة الثاني.. فتبدو السحنة اللازمة للحديث.. تفاصيل للحقيقة الخفية.. لذلك الارتباط.. وأساساته الفعلية.. تكررت زياراتي للعم حسن كثيراً..
أنصت هذه المرة.. لحديثه عن «الغناء» وفناني «المدينة المنورة» وتراثها الفني.. المتمثل في الدانات والمقامات الحجازية.. ثم في حديثه عن بدايات دخول «النوتة الموسيقية» ووظائفها.. ودرجات كل مقام غنائي.. والمجسات..! يتحدث العم حسن.. بدراية واعية.. واسترسال مدهش..!
ويتحدث في جلسة أخرى عن تاريخ الرياضة بالمدينة ولم يذكر.. أنه مؤسس لنادي أحد بالمدينة..؟ وتحدث عن الأدب والثقافة.. ولم يذكر أنه أول من أسهم في تأسيس جمعية الثقافة والفنون بالمدينة.. ورأس لجنة الفنون الشعبية فيها..! وتحدث عن تاريخ المدينة المعاصر.. وأنا أعرف أنه من أعلم الناس به..؟
وفي السيرة المهملة.. التي لا تعني «العم حسن» أنه كاتب أغنية «لآلا يالخيزرانة» و«يا الحضري دلعوك أهلك».. و«سافروا ما ودعوني» وصاحب الصياغة الأولى لأغنية «وطني الحبيب»..ولا يأبه مطلقاً.. في نسبة هذه النصوص لغيره..!
كل ذلك.. لا يعني العم حسن أو مجرد اهتمام بنقاشها.. فهو.. المنسوج بتلك الوشيجة العظمى.. للحياة.. والانسان بداخله.. والانسان في الآخرين.. ويدرك تماما.. أنه بقوة داخلة.. وعنفوان حيويته الإنسانية الباذخة.. التي لا يزيدها الزمن إلا وهجاً.. ويحيا لحب الآخرين ويمتزج بهم.. ويحبه الآخرون.. باحثون من مختلف الفئات والتخصصات.. يأتون ليسألونه في تاريخ المدينة.. أو الحركة الأدبية فيها.. أو عن علم من أعلامها..؟ يعطيهم من وقته ونصحه.. وتوجيهه.. بامتنان بالغ لهم..! دونما إشارة الى صنيعه ذلك.. أمام الآخرين..! فهو من أزهد الناس في الحديث عن نفسه..! وقد عاصر تاريخ المدينة الحديث وتحولاته.. ومفاصله المهمة..! فصار مرجعاً له وراصداً يقينياً لكثير من تفاصيله..
هوامش
* حسن مصطفى الصيرفي شاعر سعودي من مواليد المدينة المنورة عام 1334هـ.
1- أرض الفضل، حي من أحياء المدينة المنورة القديمة.
2- المكان التاريخي المشهور بالمدينة المنورة.
3- شكل من أشكال المعمار المديني، عبارة عن تكوين خشبي مزخرف، يوضع على النوافذ من الخارج ويمتاز بفنيات زخرفة جمالية مميزة.
4- صالون أدبي أسسه حسن صيرفي في منزله منذ أكثر من ثلاثين عاما.
5- فوانيس الإضاءة القديمة ووقودها الكاز توضع في الأزقة وتضاء ليلاً. اشتهرت بها مدن الحجاز.
6- الأسرة الأدبية المشهورة التي أنشئت في السبعينيات الهجرية بالمدينة، ومن أعضائها الراحل محمد هاشم رشيد، والدكتور محمد العيد الخطراوي، وعبدالرحيم أبوبكر، وبدأت في منزل حسن صيرفي وكان رئيسها.
7-8-9- أحياء قديمة بالمدينة المنورة وما زالت تعرف بهذه الأسماء.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved