Sunday 9th march,2003 11119العدد الأحد 6 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أمريكا والإرهاب (1/2) أمريكا والإرهاب (1/2)
سلمان بن فهد العودة

كتب هذا المقال قبل ستة اشهر، وكانت فحواه الظن المجرد بأن الإدارة ا لامريكية تتجه إلى الصدام مع العالم كله ومؤسساته بدلاً من الصدام مع طرف ما تصفه بالإرهاب وهذا ما بدا اليوم واقعاً مشهودا للعيان في مسألة الحرب على العراق، ومواجهة العالم كله بلا مبالاة!.
ولاشك ان نهاية الحرب الباردة قد غيرت الكثير من الأوضاع، وأصبح مسوقا في دوائر الغرب والولايات المتحدة بوجه خاص أن العالم مقبل على حياة أفضل ومهيأ لقدر من التعايش والعدالة بين أجناسه وشعوبه وأممه بمختلف تشكلاتها ونماذجها؛ لكن هذه الطمأنة لم تكن تتمتع بقدرة على التطبيق من حيث إن المشكلة التي كانت تمثلها الشيوعية لم تكن هي المشكلة الوحيدة التي تهدد الأمن العالمي، وهنا يبدو النظام العالمي الجديد بعد الشيوعية يحتفظ بقدر من التطرف والاستبداد؛ لأنه نظام أحادي التكوين والتركيب.
وفي ظل هذا النموذج الجديد المبشر به باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التجارة اتجهت الولايات المتحدة لفرض خياراتها على مجموعة من حلفائها الأوربيين، فضلا عن دول العالم الثالث، وهذا يعني أن الولايات المتحدة التي أصبحت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الدولة الأقوى في العالم صارت تخلق أسباباً تخولها ملاحقة كل أشكال الطموح والتميز في العالم، والذي قد يسبب يوما ما مزاحمة للإدارة الامريكية، ولم يكن مفاجئا أن تخرج الولايات المتحدة أكثر من مرة عن الخارطة الدولية في الأمم المتحدة؛ لتتبنى قرارات احادية الجانب، أو تعترض على إجماع دولي.
حين واجهت الولايات المتحدة ضربات الحادي عشر من سبتمبر تحرك القرار الأمريكي لمواجهة ما يسميه بالإرهاب ضمن مطالبة الدول بالتحالف مع الولايات المتحدة، دون ان تقدم الإدارة الأمريكية خطة تحدد مفهوم الإرهاب، وصور معالجاته، بل تمثلت الحركة الامريكية في ترسيم (العنف والعنف المضاد) كخيار للعالم في هذا القرن، ومن المؤكد ان الإدارة الأمريكية مع شمولية نظرتها في تصنيف الإرهاب، وأن كل من يعارضها سيكون ملاحقا في هذه الحرب، التي قد تأخذ في البداية تجاربا على مجموعة من الضعفاء، كما هو الحال في ضرب المدنيين في افغانستان، وهذا يعني أن هذه الحرب لن تقف حسب طموح إدارة الصراع في الولايات المتحدة حتى تنتهي كل أشكال الاستقلالية والطموح الذي يختار مساراً آخر قد لا تتذوقه الإدارة في الولايات المتحدة، وهنا فإن الاصطدام الأمريكي لن يكون بدول العالم الإسلامي فقط التي حافظ الغرب على تخلفها التقني بل سيكون الحياد ذاته شكلا من اشكال الإرهاب في نظر الإدارة الامريكية، حتى مع الدول الاكثر تقدما وقدرة على تقرير مستقبلها الخاص، وهذا يعني أن الخطة المعلنة ستصنع كارثة عالمية تتجه لتقويض الامن المدني، وضرب جميع صور الاستقلال السياسي والثقافي في العالم.
ومن المؤكد أن خصومة الولايات المتحدة في هذه المرحلة لم تعد مع جماعة أو منظمة خاصة، بل بدأت تتجه للصراع مع العالم اكثر من أي وقت مضى، ومن المؤكد ايضا ان الرأي العام العالمي لا يشعر بعدالة كافية في الحركة الأمريكية، وبات اكثر ذكاء ووضوحا في رفض المزايدة الأمريكية تجاه قضية الإرهاب.
إن التقرير الاستراتيجي الأمريكي يفوض الإدارة الامريكية في مصادرة كل صور القوة والمنافسة لتظل الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة في العالم.
الإسلام والإرهاب
لا يحظى مصطلح الإرهاب بمصادقة واعتراف في الثقافة الاسلامية التي تنطلق من قيم الإسلام كنظرية أو فكرة لصناعة العدوان على الآخرين أو ضرب الحقوق.
وهنا لسنا نتحدث عن مسيرة يومية لكل فرد في العالم الاسلامي، أو أفكار خاصة يراها طائفة من المسلمين، فالحديث عن الإسلام يعني الحديث عن النظرية الإسلامية المحضة من جهة، أو عن التطبيق العام على مستوى الأمة كافة.
إن الاسلام دين يؤمن به أكثر من مليار إنسان في العالم، وأكثرية الناس في مناطق الأهمية الاستراتيجية هم من المسلمين، ويمتد هذا الدين لأكثر من أربعة عشر قرنا ولم يخلق مشكلة لاحد في العالم طوال هذا الامتداد، لكنه مع ذلك يؤمن بحق الدفاع عن النفس وتأمين الحرية الخاصة، وعلى هذا فمن التسطيح للمشكلة ان تعرض على ان الإرهاب إملاء من الثقافة الإسلامية؛ فإن هذا يعني ان العالم والولايات المتحدة بوجه خاص يواجه اكثر من مليار إنسان، ومناطق متناثرة في العالم كلها تصنع الإرهاب! ولعل هذه هي النتيجة التي يسعى إليها من يديرون دفة الحرب، ويدقون نواقيسها.
إننا هنا معنيون بمخاطبة الفرد في العالم كله، وهذا يعني ان نقدم حقائق بسيطة تسمح للآخرين أن يفهموا موقفنا نحن المسلمين من الإرهاب حتى لا نسمح لآلة الإعلام؛ الذي لا يحترم الموضوعية والدقة بمزيد من الاسقاطات التي تخدع الكثيرين في الغرب، وخصوصا الشعب الامريكي.
إننا ندرك ان الإسلام حقيقة ربانية عادلة، تقدم الخير للبشرية كلها؛ وقد جاء النبي الخاتم {رّحًمّةْ لٌَلًعّالّمٌين} أي: للعالم كله، حتى أولئك الذين لم يؤمنوا به، حفظ حقوقهم، واعطاهم في ظل حكمه التاريخي مستوى من العدالة لم يحلموا به، يقول: غوستاف لوبون المؤرخ البريطاني الشهير: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، صحيح أننا نمتلك رؤية خاصة، تحدد هويتنا الإسلامية، وصحيح أيضاً أننا نتقاطع في مجموعة من المفاهيم والقيم مع مجموعة مفاهيم لأمم وشعوب اخرى، من الواضح أننا على اختلاف مع كثير من المفاهيم الغربية، ولنا خيارنا الخاص، كما ندرك أن الآخرين يمارسون خيارهم الخاص.
إنه في الوقت الذي يرسم فيه الاسلام امتياز المسلم وخصوصية هويته تحت مجموعة من القيم والمفاهيم،؛ فإن الإسلام رسم ضمن هذه الهوية أصول العلاقة المشتركة مع الآخرين، بما يسمح بإرساء قواعد العدالة، واحترام الحقوق في العلاقات الخاصة والعامة، ويسجل في تاريخ الاسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار شابا يهوديا في مرضه، ودعاه للإسلام فقبل دعوته، واسلم تحت رسالة الأخلاق.
إن من قيم الإسلام الدعوة الى العفو، وخلق مساحات أوسع للتسامح، وحماية الأمن المدني حتى يتمتع الفرد بقدرة كافية لقراءة القيم الإسلامية، وصناعة الحياة الأفضل، وتحت هذا الامتداد يكون من التسطيح الظن بأن المسلمين، أو حتى فئة منهم يستهدفون قيم العدل والحرية المعلنة للشعب الامريكي، أو أن قيم المسلمين تفرض عليهم قتل الآخرين دون أي نظام اخلاقي لمجرد انهم يخالفونهم، او لكونهم يمارسون العدل أو الحرية، هذا التصور ببساطة يعد صناعة لكارثة، قد يكون الطرف الأكثر خسارة فيها هو الشعب الأمريكي قبل اي مجتمع في العالم، وإذا أردنا أن نكون منصفين؛ فإن علاقة المسلمين بالغرب صنعها الغرب أكثر بكثير مما صنعها المسلمون، وليست الحروب الصليبية بدمويتها وفداحتها في التاريخ الماضي هي الاحتكاك السلبي الوحيد من قبل الغرب ضد الإسلام والمنطقة الإسلامية، فإن ذكريات الاستعمار، ومصادرة حق الشعوب، وضرب المقاومة الوطنية هي الأكثر حضورا في الذهنية الإسلامية والعربية اليوم، لكن الذي يبحث عن مواقف سلبية إسلامية ضد الغرب، سيجد صعوبة بالغة في الحصول على أي أدلة تاريخية صادقة.
الجهاد والارهاب
من الواضح ان الإرهاب لم يكن أحد القيم التي يريدها الإسلام لمعالجة المشكلات مع الآخرين، أو فرض مفاهيمه على الآخرين.
ولا يتم تداول كلمة (الإرهاب) كمصطلح إسلامي أو شرعي، وهنا يمكننا ان نتساءل: هل يمكن ان يقبل أحد في تحديد الإرهاب أن كل ما كان ضد الولايات المتحدة مثلاً فهو إرهاب؟!
كيف يمكن ان نضمن للشعوب الأخرى حقها في الدفاع عن مصالحها وحقوقها إذا كانت الولايات المتحدة هي الطرف المعتدي؟
تحت أي غطاء تقوم الولايات المتحدة بشن الحروب المدمرة هنا وهناك؟ أليس تحت مبرر الحرب على الإرهاب؟!
إذاً فثمة حرب عادلة ومشروعة.
فمن يملك حق تحديد ملامح هذه الحرب؟
ومتى تكون مقبولة؟ ومتى تكون مرفوضة؟
نعم! الإسلام يحدد موقفه على ضوء التعريف الذي يمكن منحه للإرهاب، وليس من الممكن ان (يوقع على بياض) كما يقال!
فما يندرج تحت الإفساد في الأرض، أو الظلم، أو العدوان على الأبرياء فهو مرفوض أيا كانت تسميته، وفي أي أرض وقع، سواء وقع في أمريكا، أو افغانستان أو فلسطين، أو اليابان أو نيكارجوا، أولبنان أو العراق، أو فيتنام، أو ليبيا.. الخ.
وما كان دفاعا مشروعا عن النفس، أو مقاومة للمحتل، أو طردا للمستعمر فهو عدل مقبول سائغ.
وحتى في هذه الحالة؛ فإن للحرب في الإسلام نظاما اخلاقيا صارما، تتم الإشارة إليه بعد.
وهنا اشكال متعددة من الإرهاب فمنها:
1 الإرهاب الاستعماري، الهادف الى نهب خيرات البلاد.
2 الإرهاب الاستيطاني، كما في اسرائيل، وجنوب إفريقيا سابقا.
3 الإرهاب الفكري، كالذي تمارسه الصهيونية ضد من تسميهم بأعداء السامية.
4 الإرهاب الدولي، الذي تمارسه دول وحكومات ضد غيرها تحت مسميات فضفاضة.
5 الإرهاب الاقتصادي، الذي تمارسه دول الشمال الغني مع دول الجنوب الفقير.
أما كلمة (الجهاد) التي يتم تداولها كرديف للإرهاب في أدبيات الغرب عامة، فهي مفهوم حياتي واسع، لا يختص بالمواجهة المسلحة مطلقا.
وفي نصوص الكتاب الكريم نجد:
1 الجهاد بالقرآن {فّلا تٍطٌعٌ الكّافٌرٌينّ وّجّاهٌدًهٍم بٌهٌ جٌهّادْا كّبٌيرْا} (الفرقان 52)، وهذا يعني: الدعوة والحجة والبيان والمجادلة بالحسنى.
* فيدخل في معنى الآية: مجاهدة النفس على الخير والتزكية والإيمان، وكفها عن الشر والشهوة والفتنة ومثله قوله تعالى: {وّمّن جّاهّدّ فّإنَّمّا يٍجّاهٌدٍ لٌنّفًسٌهٌ إنَّ اللهّ لّغّنٌيَِ عّنٌ العّالّمٌين} *العنكبوت: 6* .
3 الجهاد بالمال، وهذا يعني صرفه في مصارف الخير المتنوعة، ويشمل ذلك صرفه للمقاتلين في سبيل الله، وهذا ورد في عدة مواضع من القرآن الكريم.
4 الجهاد بالنفس، هذا يشمل الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن، كالقتال المشروع في سبيل الله، والتعليم والدعوة، وغيرها.
ومن المدركات التاريخية المقررة ان اكبر بلد إسلامي اليوم من حيث عدد السكان (إندونيسيا) دخلها الإسلام ليس عن طريق الحرب، بل بالرسالة الأخلاقية.
وبالرغم من انحسار السلطة الإسلامية عن مناطق كثيرة حكمها الإسلام تاريخيا إلا أن اهلها الأصليين ظلوا مسلمين، وحملوا رسالة الحق ودعوا اليها وتحملوا الأذى والتعذيب والظلم في سبيلها، كما نجده في بلاد الشام ومصر والعراق والمغرب والقوقاز والبلقان واسبانيا التي اقيمت للمسلمين فيها محاكم التفتيش، وهذا يدل على أن تأثير الإسلام فيهم كان أخلاقيا إقناعياً، بخلاف الاستعمار الغربي الذي اخرج بالقوة من البلاد الاسلامية ولا يتذكر الناس عنه إلا المآسي والآلام والقهر والتسلط.
ان من الخطأ الفادح ان يتصور البعض ان كلمة الجهاد هي رديف لكلمة (القتال) أو (الحرب) والتي لا تعني إلا جزءا خاصا من مفهوم الجهاد.
إن الإسلام تحت اسم الجهاد يدعو الى حماية المجتمعات من الظلم والتسلط والدكتاتورية التي تصادر الحقوق والحريات، وتلغي نظام العدل والأخلاق، وتمنع الناس من سماع الحقيقة أو اعتناقها، أو تضطهدهم في دينهم.
كما أنه تحت الاسم ذاته يسعى الى تحقيق الإيمان بالله وعبادته وتوحيده ونشر قيم الخير والفضيلة والأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال سبحانه: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125)
كما يدعو الى الإصلاح الاجتماعي في مقاومة الجهل والخرافة والفقر والمرض والتفرقة العنصرية. ومن اهدافه الأساسية حماية حقوق المستضعفين الخاصة والعامة من تسلط الأقوياء والمتنفذين. وفي القرآن الكريم: ) يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) (النساء:75)
قال الزجاج: أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء المستضعفين؟ وهذا قول ابن عباس، وغيره من أئمة التفسير. وبهذا يكون من صور الجهاد في الإسلام مقاومة الظلم ومقارعته، )وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء:75)
فهو يضمن حق الأمم في مدافعة الظالمين المعتدين. ويحرم الإسلام الظلم حتى للمخالف في الدين، كما قال سبحانه: {وّلا يّجًرٌمّنَّكٍمً شّنّآنٍ قّوًمُ عّلّى" أّلاَّ تّعًدٌلٍوا اعًدٌلٍوا هٍوّ أّقًرّبٍ لٌلتَّقًوّى"} [المائدة: 8] . ويقول للمؤمنين في شأن قريش التي منعتهم من دخول المسجد الحرام بمكة: {اّلا يّجًرٌمّنَّكٍمً شّنّآنٍ قّوًمُ أّن صّدٍَوكٍمً عّنٌ المّسًجٌدٌ الحّرّامٌ أّن تّعًتّدٍوا} [المائدة:2]، والشنآن هو البغض والعداوة، أي لا تحملكم بغضاء وعداوة شعب أو أمة على أن تعتدوا عليهم أو تظلموهم وتصادروا حقوقهم. وفي الحديث عن أنس ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب) رواه الإمام أحمد في مسنده، وهو حديث صحيح الإسناد. كما أن من صور الجهاد مقاومة الدكتاتوريات التي تريد المحافظة على الخرافة والجهل، وعدم إعطاء مساحة لقيم الإيمان بالله، والأخلاق في الحركة الاجتماعية.
الإسلام والقتال
وفي موضوع القتال يمكن أن نرسم بعض الحقائق المهمة في التصور الاسلامي، ومن بينها ما سبق أن الجهاد وإن كان أوسع من مفهوم القتال؛ فإنه يبقى من الوضوح أن نقول: ان القتال في الإسلام فريضة مشروعة {كٍتٌبّ عّلّيًكٍمٍ القٌتّالٍ وّهٍوّ كٍرًهِ لَّكٍمً} [البقرة: 216] وذلك حين يكون خيارا لمعالجة المشكلات، أو مواجهة الظلم والعدوان والدفاع عن الحريات والحقوق الخاصة، وحين نؤكد اعتراف الإسلام بالقتال والدفاع والحرب فهذا جزء من منظومة القيم في الإسلام كما نفهمها، ويمكن لكل منصف ان يدرك معقولية مثل هذا القرار في الإسلام. لقد دخل المسلمون في تاريخهم الطويل معارك وحروبا تحت هذا المبدأ. ومع أننا ندرك تماما انه ليس ضروريا ان ما يصنعه مجموعة من المسلمين فهو إملاء إسلامي شرعي في نظر الآخرين، وأن التاريخ الإسلامي ليس دائما سجلاً للفضائل المحضة، ولكن دعونا نتذكر. كم قتل المسلمون من المدنيين في القرن المنصرم؟! وكم قتلت الشيوعية؟! وكم قتلت المجموعات والدول الغربية؟! ومن الذي اشعل اكبر حربين عالميتين خلال نصف قرن، وجر إليها القريب والبعيد؟! إن العالم يتذكر بمرارة ضرب المدنيين بالأسلحة النووية في هيروشيما وناجازاكي، ويتذكر المجازر الدموية في البوسنة والهرسك، والتباطؤ الدولي عن ايقاف نزيف الدماء هناك، ولقد قتل في إندونيسيا عام 1965م في اثر انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة ـ مئات الألوف، غالبهم من الفلاحين، ولم تخف الصحافة الوطنية في الولايات المتحدة اغتباطها بما يحدث، كما قتل مئات الآلاف في العراق من الاطفال في ظل الحصار الدولي منذ عام 1991م. ويشاهد العالم بعينيه ما تفعله القوة الغاشمة الإسرائيلية ـ المدعومة من الولايات المتحدة ـ بالعزل في فلسطين الذين تحتل ديارهم، وتعامل حتى مواطنيها منهم معاملة عنصرية سافرة. وإذا كان هؤلاء الذين رسموا في العصر الحديث مذابح جماعية يشعرون بمبررات في داخلهم؛ فهذا يدل على عمق المشكلة الأخلاقية التي تواجه العالم. إن الإسلام حين يدعو لاعتماد خيار القتال؛ فهذا يأتي ضمن نظام يتسم بالدقة والعدالة، واعطاء فرصة للسلام، فهناك مجموعة من الشروط ترسم نظام القتال الذي يشرعه الإسلام للمسلمين، وهو هنا إحدى صور الجهاد، لكن من الواضح انه ليس عدوانيا على احد، بل يقوم لحماية الحقوق ونصر المستضعفين ومحاربة الظلم والتعسف، ونشر قيم العدل امام رفض مجموعات الدكتاتورية الانفتاح على الآخرين، والسماح للفرد في المجتمع باختيار القيم الفاضلة. وفي هذه الدائرة، يمكن أن نفهم صورة القتال في الإسلام، كنظام لنشر وحماية الحريات المدنية والحقوق، والمسلمون حين يشاركون في هذا القتال فإنهم يتمتعون بعلاقة روحية في داخلهم تجعلهم الأكثر كفاءة من الناحية المعنوية. وإذا كان المثل يقول: إن الأخلاق تعرف حال القوة والقدرة ـ وهذا في نظرنا صحيح ـ فإن الإسلام حال قوته ونفوذه كان يرسم قيما اخلاقية عالية، حتى مع الذين يضطر الى محاربتهم. وفي أمثلة سريعة، يرد أبو عبيدة الى أهل حمص المال، الذي اخذه منهم مقابل الحماية؛ خشية الا يقدر على حمايتهم، وهو يقوم بها في الوقت ذاته. ويأمر الخليفة عمر بن عبدالعزيز بتشكيل محكمة ميدانية، للنظر في دعوى أهل سمرقند، بعدم صحة إجراءات الحرب، فتأمر المحكمة الجيش الإسلامي بالانسحاب الفوري، وهكذا كان ينسحب الجيش وسط دهشة أهل المدينة وذهولهم. وهذه الحرب العادلة محكومة وفق الشريعة الإسلامية بالنظام الأخلاقي الذي لا يسمح بالتجاوز، حتى نجد في وصية الخليفة الأول، الصديق ـ رضي الله عنه ـ ليزيد: لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا هرماً. وكذلك كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يوصي جيشه ويقول: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا هِمَّا، يعني كبيرا. وكان أبوبكر يوصي بعدم قتل الرهبان في الصوامع. وقال عمر: اتقوا الله في الفلاحين، الذين لا ينصبون لكم الحرب. وهذا باب تطول قراءته، ويعرف في مواضعه من كتب الفقه الإسلامي. لقد كان لفقدان المسؤولية في تصنيف الإرهاب اثر في رفع روح التوتر ضد الولايات المتحدة، ليس بين المسلمين فحسب، بل حتى لدى شعوب اخرى في العالم. قد يبدو للأقوياء أن من السهل والمناسب إسقاط المشكلات على الضعفاء، تحت مجموعة من الذرائع، وهذا ما نقرؤه في اتجاه بعض الدوائر في الغرب، في جعل الطرف الرئيس في مشكلة الإرهاب المسلمين، وليس غيرهم.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved