Sunday 9th march,2003 11119العدد الأحد 6 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الفيفي يبحث عن مفاتيح القصيدة الجاهلية بين الفيافي والأطلال «1-2» الفيفي يبحث عن مفاتيح القصيدة الجاهلية بين الفيافي والأطلال «1-2»
د. الفيفي: المكان الذي تنتمي إليه.. القصيدة الجاهلية.. لا يتعدى وسط الجزيرة العربية ولا يتجاوز شعراء معدودين

* لقاء : علي سعد القحطاني
لقد كانت الملحوظة الأولى في دافع هذا البحث أن مجمل الدراسات حول الشعر القديم الجاهلي تفتقر الى إعطاء القارىء مفاتيح أساسية لقراءة القصيدة والولوج في أغوارها، فكان أن جاءت تلك الدراسة الجادة «مفاتيح القصيدة الجاهلية: نحو رؤية نقدية جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا» وقامت ثقافة «الجزيرة» باستضافة المؤلف للتعرف على مصطلح الجاهلية خصوصاً، وأنه مصطلح لا تعني بالضرورة الجهل المعرفي بمقدار ما تعني الجهل بالمفهوم العقدي. وبيّن الضيف الكريم ان المستشرقين استحدثوا مصطلحاً بديلا مكان الشعر الجاهلي إلا أن ذلك البديل الذي اتخذوه يبدو أكثر التباساً .وألمح الدكتور الفيفي إلى ان العلماء القدامى قد أهملوا تراثاً كثيراً كان في أطراف الجزيرة العربية، ذلك ان هدف مدوني التراث الجاهلي لم يكن في الأساس علميا بمقدار ما كان هدفاً دينياً..معاً أيها القارىء الكريم نَشدُّ رحالنا الى الصحراء، ونقف عند الأطلال لكي نستحضر روح القصيدة الجاهلية برؤية نقدية جديدة وهذا ما فعله الدكتور عبدالله بن أحمد الفيفي في كتابه «مفاتيح القصيدة الجاهلية».
مصطلح «القصيدة الجاهلية»
* في البدء دعنا نتعرف على مصطلح «القصيدة الجاهلية» من حيث دلالتها الزمنية والمكانية، وما دلالة «الجاهلية»، على الرغم مما يكشفه بحثك من معارف كانت للعرب قبل الإسلام؟
- زمانيَّا، هي القصيدة التي تنسب الى عصر ما قبل الاسلام، والجاحظ كان يحدد عصر القصيدة الجاهلية بمئة وخمسين سنة قبل الإسلام، «إذا استظهرنا غاية الاستظهار»، حسب قوله. ومن هنا فمصطلح «الجاهلية» مصطلح ديني في الأساس لا علمي. أي ان الجاهلية هاهنا لا تعني بالضرورة الجهل المعرفي بمقدار ما تعني الجهل بالمفهوم العقدي والأخلاقي. أي أنه، كما قيل، «الجهل المنافي للحلم لا الجهل المنافي للعلم». وهذا مدلول الكلمة قبل الاسلام، الذي عبّر عنه عمرو بن كلثوم حينما قال:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وعليه، لا تناقض بين هذا المصطلح وما تكشف عنه الآثار اليوم مما كان للعرب من معارف وفنون مختلطة بعقائد القوم وأساطيرهم، كسائر الأمم القديمة ذات الحضارات، في اليمن، أو العراق، أو مصر، أو اليونان.
* إذن لماذا التمسك بمصطلح «الجاهلية»؟
- قديماً قيل:«لا مشاحة في الاصطلاح». «والشعر الجاهلي» صار مصطلحاً مستقراً مفهوماً، قديماً وحديثاً، لا حاجة بنا الى مزيد تبيانه أو تغييره. هناك من يستخدم عبارة «ما قبل الاسلام» بديلاً، لكنه مصطلح حادث، استعمله المستشرقون بصفة خاصة، فأنت تجدهم غالباً يستعملون مصطلح «Pre-Islamic poetry»، مكان «الشعر الجاهلي»، ربما لتجنب البعد الديني الذي يحمله المصطلح العربي أو ذلك الايحاء بنفي المعرفة الذي يوهم به، لكن ذلك البديل الذي اتخذوه يبدو أكثر التباساً، حين يتداخل ما «قبل الاسلام» بزمن غير محدد من عمر التراث العربي قبل الاسلام. فتراث العرب قبل الاسلام لا يقتصر على امرىء القيس وطرفة ولبيد ومن لف لفهم، بل هو يمتد الى ما قبل الميلاد من حضارات الجزيرة والرافدين ووادي النيل واليمن. وعندئذ يقع مصطلح «ما قبل الاسلام» في إطلاق آخر يحتاج الى ضبط.
المكان
* ماذا عن المكان؟
- كما أشرت في الإجابة عن السؤال السابق تراث العرب أوغل في التاريخ والجغرافيا مما هو عليه تصورنا النمطي، ولكننا لأسباب تراثية أو حديثة نجهل تراثنا أو نتجاهله، ولئن لم تكن هنالك من براهين علمية على ما يذهب اليه «نجيب البهبيتي» مثلاً فيما يتعلق بامتداد جغرافية التاريخ العربي القديم الى أوروبا فضلا عن آسيا وأفريقيا، فقد بات من المؤكد اليوم ان التصورات التقليدية عن حضارة العرب قبل الاسلام كانت قاصرة جداً، وهو ما تميط اللثام عنه المكتشفات الأثرية الحديثة، وما حاول كتاب «مفاتيح القصيدة الجاهلية» ان يستقرئه، في حدود مادة البحث ومنهاجه. لكن مازاد معرفتنا قصوراً حول الأدب الجاهلي، والتراث القديم عموما، أمران. أولاً، تأخر جمعه وتدوينه، الى القرن الثاني الهجري، ونتيجة لذلك - وللاعتماد على الرواية الشفهية - ضاع معظمه. وثانياً، أن جامعيه من العلماء القدامى قد أهملوا تراثاً كثيراً كان في أطراف الجزيرة العربية، ناهيك عما كان لعرب خارج الجزيرة. ذلك ان هدف مدوني التراث الجاهلي، لم يكن في الأساس هدفاً علمياً بمقدار ما كان هدفاً دينياً، أعني ان شروطهم المنهجية للجمع والتدوين كانت تنطلق من هاجس الحفاظ على اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، كما هو الحال في مختلف العلوم التي نشأت في ذلك العهد، وكان هاجسها الديني يطغى على ما سواه. ولذلك كان معيار اللغة القرآنية هو الذي يحدد مسارهم، وما يأخذون أو يدعون. ولذا، فلابد أنه قد أُهمل كثير جداً من تراث الحضارة العربية والبداوة العربية معا. يكفي ان نعلم حقيقتين: أولاهما أن جهود علمائنا إذ ذاك - مع أننا ندين لها بفضل ما وصل إلينا - ظلت محدودة، وإن بولغ عادة في وصف ذاكرتهم الخارقة للطبيعة البشرية.وكانت الوسائل المتاحة لذلك المشروع الضخم الذي اضطلعوا به لا تكاد تذكر، لا بالقياس الى زمنهم فحسب، ولكن أيضاً بالقياس الى ترامي مادة بحثهم جغرافياً وتاريخيا. هذا الى ما أشير اليه من اعتمادهم على النقل الشفهي لا الوثائقي المكتوب، لعدم توفر هذا الأخير، أو حتى لعدم الاعتداد به في مرحلة كانت لا تقيم العالم إلا بذاكرته لا بقراطيسه وإنما كان غاية أحدهم، وهو يعيش في البصرة أو الكوفة، أن يتصيد الأعراب القادمين ليأخذ عنهم الشعر والعربية، وربما رحل هو الى بعض مضاربهم ليسمع عنهم مباشرة، وهؤلاء كانوا من جهتهم قد فطنوا لما يمكن ان تدرّه عليهم هذه اللعبة التجارية من مال أو صيت. فاختلط الحابل بالنابل، رغم جهود التمحيص اللاحقة، التي ربما نفت بدورها صحيحاً أو أثبتت مزيفاً، استناداً الى معايير فضفاضة، ولا يمكن ان تكون موثوقة النتائج دائماً.. وتلك قصة أخرى. الحقيقة الثانية، ما أشير اليه من أنهم قصروا نطاق جمعهم على وسط الجزيرة العربية، وعلى بضع قبائل محدودة، وأهملوا سائر الأجزاء والقبائل، بحجة أن لغتهم تخرج قليلاً أو كثيراً عن العربية الصحيحة «الفصحى»، وفق معاييرهم، ولاسيما بعد ان انفتحت الجزيرة بعد الاسلام، أكثر من أي وقت مضى، على الأمم المجاورة بلغاتها المختلفة. ومن هناك جاءت مقولة «أبي عمرو بن العلاء»، التي يشير اليها ابن سلام الجمحي:«ما انتهى اليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير». ولكن هذا «الأقل» الذي يشير اليه أبوعمرو لم يكن سببه ضياع التراث العربي قبل الاسلام أو الاعتماد على الرواية الشفهية في النقل فحسب، ولكنه أسهم فيه كذلك منهج ذلك الرعيل الأول الذي أسس لمن جاء بعده معايير في تعيين المادة المعترف بها من تراث العرب. هذا فضلا عما كان دائما يعتور ما بلغ أبا عمرو ومجايليه من علم العرب وشعرها من الضياع الطبيعي أو التضييع المتعمد، ما جعل «أقل» التراث الذي انتهى اليهم يزداد قلة واضمحلالاً عبر العصور، ولقد حُكي مثلاً ان أبا عمرو ابن العلاء نفسه - وفي لحظات اكتئاب ما من عمره - قد قام بإتلاف بعض ما كان جمعه مما قالت العرب، أي مما كان يتحسر من قبل على شح مادته بين يديه، وهكذا، فصحيح أن منهج القدماء في الجمع والتدوين كان منهجا ضرورياً لتحقيق هدفهم في ضبط اللغة العربية وتوحيد اللسان العربي، وصحيح ان إمكاناتهم لم تكن تسمح لهم بأكثر مما فعلوا، غير ان الفضول العلمي «المشروع» اليوم كان يتطلع الى كثير مما أهملوه، مما كان يمكن ان يجيب عن أسئلة كثيرة تدور حول العربية الفصحى نفسها والتراث الجاهلي ذاته. خلاصة القول: إن المكان الذي تنتمي اليه «القصيدة الجاهلية» لا يتعدى وسط الجزيرة العربية، ولا يتجاوز شعراء معدودين، كانت قبائلهم مقيمة هناك، أو انتقلوا الى هناك، من جنوب الجزيرة على وجه الخصوص، كما هو حال امرىء القيس، على سبيل المثال.
شُرّاح القصيدة الجاهلية
* حتى لا يتشعب الموضوع، ماذا كانت ملاحظاتك الأكاديمية على مجمل الدراسات حول الشعر الجاهلي؟
- بالفعل «القصيدة الجاهلية» - بمعايير النظر اليها، المستفيدة من مكتشفات العصر في الآثار والميثولوجيا - تفتح علينا أسئلة متشعبة، قد لا نملك الاجابة الشافية عنها بالضرورة، بحكم الأسباب المتقدمة اليها بالإشارة. إن مجمل الدراسات حول الشعر القديم - قديمها والحديث - قد درجت على أمرين: فهي تغفل تارة النظر الى الشعر على أنه شعر، وتارة أخرى تغفل النظر اليه على أنه شعر عربي، له سياقه من الثقافة العربية العتيقة. فالقدماء كانوا يفتقرون الى معلومات عن حياة العرب في جزيرة العرب، حيث نبت الشعر الجاهلي، مما أصبحنا نعرف اليوم بعضه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن يعنيهم من الشعر إلا اللغة - بمفهومها السطحي المباشر - أو الجغرافيا - بمعناها الواقعي المطلق - أو إن تعدوا هذا وذاك فإلى بعض المسائل البلاغية الإنشائية الجزئية. أما الدراسات الحديثة فظلت تراوح بين تلك المناهج التقليدية في القراءة والتأويل، وبين مناهج حديثة يتعسفها الباحثون تعسفا كي يسقطوها اسقاطاً على الشعر القديم. ولقد ناقش كتاب «المفاتيح» نماذج من هذه التركة الثقيلة - غير الثمينة كثيراً من وجهة نظر المؤلف - إن في مقدمة البحث أو في ثناياه. أما المناهج التقليدية، فهي تقف عند الجزئيات، ثم لا تفرق بعدئذ عند التفسير بين شعر قاله جاهلي وآخر قاله غير جاهلي، بل قد لا تفرق بين لغة الشعر ولغة النثر، وما الشراح والبلاغيون، منذ «ابن قتيبة الدينوري» الى «أبي بكر الباقلاني»، أو غيرهما، إلا نماذج كبرى لذلك النهج الظاهري المزمن في قراءة الشعر الجاهلي، وما البلدانيون والجغرافيون، منذ «البكري» في «معجم ما استعجم»، أو «الحموي» في كتبه المختلفة، وصولا الى «ابن بليهد»، و«الجاسر»، و«ابن خميس»، و«ابن جنيدل»، وغيرهم ممن تبع منهجهم الجغرافي حديثاً، إلا أمثلة على نهج آخر من جهد مضن متواصل لتحديد الأصقاع والديار استناداً على إشارات الشعر. وهي جهود قيمة ومفيدة بلا شك، لولا أنها ما فتئت تبحث عن سراب الجغرافيا في مهامه الشعر، ذلك ان المكان في القصيدة غير المكان في الواقع، والشعر جاهلياً غير الشعر اسلاميا. وعدم الوعي بهذا كثيراً ما يفضي أخيراً الى متاهات من التفسير، لا على المستوى الشعري فحسب، ولكن أيضا على صعيد الغايات الجغرافية نفسها، حينما يتخذ الشعر وثائق تحدد على أساسها المواطن والبقاع.
أما الدراسات الحديثة، فليست غالباً بأحسن حالاً، فمنها ما يتوسل الشعر الجاهلي لا لدرسه لذاته، وإنما لعرض مناهج حديثة، كالبنيوية مثلا. وقد رأيت كمال أباديب خير مثال على ممارسي ذلك، كما في كتابه «الرؤى المقنعة: نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي». وهناك اتجاه آخر يقترب من فهم طبيعة الشعر وطبيعة الثقافة الجاهلية، بيد أنه يخطىء الطريق - في رأيي - حينما لا يضع ذلك الشعر في سياقه من حياة العرب قبل الاسلام، بل يقيسه على طقوس ثقافية لأمم أخرى. ولعل الباحثة الأوكرانية الأصل؛ التي تعمل حاليا في «جامعة إنديانا - بلومنقتون، بالولايات المتحدة الأمريكية»، «سوزان ستيتكيفيتش»، أفضل مثال على هذا التوجه، وذلك من خلال بحوث لها مختلفة عن الشعر العربي القديم، جاهلياً وإسلاميا، كان أشهرها بحثها حول ما تسميه بنموذج «طقس العبور» أو «نظرية طقس التضحية» كما صاغها علماء الأنثروبولوجيا. وعلى ما لبحوث ستيتكيفيتش من قيمة لا تنكر في حقل دراسة الشعر العربي القديم، إلا أنه ظل يسيطر على ما أنجزته عاملان مخلان، نزعة التعميم وغياب الوعي بخصوصية الثقافة العربية والميثولوجيا العربية، فإذا هي تقيس في تأويلاتها الشعر الجاهلي بمعطيات من خارج تربته الأصلية، التي كانت أولى بالتنقيب فيها، ومن هنا تذوب هوية القصيدة الجاهلية في هويات انسانية شتى الملامح. فمع تسليمي بوجود قواسم عالمية مشتركة بين الثقافات والحضارات لا ريب فيها؛ لأن الانسان هو الانسان، إلا أنني سأختلف بعد ذلك مع ستيتكيفيتش في التفريعات والتفصيلات وبعض التأويلات والتأصيلات. ثم إن جملة الدراسات في الشعر الجاهلي عربية وغير عربية، سواء ابتعدت عن سياقه أو قاربته، ظلت في عمومها دراسات جزئية، إما في قراءتها شعر شاعر بعينه، مستقلا عن غيره، أو في تركيزها على ظواهر شعرية محددة. أو في البحث الفقهي اللفظي، دون تجاوزه الى المركبات، من لغوية ونحوية، وأسلوبية، وايقاعية، وسياقية حياتية. ورأيي هنا أن التحديق المفرط في الجزئيات من النص الأدبي- وإن بدا عملاً علمياً رصيناً، وذلك ما يمارسه جارسولاف ستيتكيفيتش على سبيل المثال - «زوج سوزان ستيتكيفيتش»، وأحد الباحثين المهمين أيضا الساعين الى تأسيس تاريخ للكلمات العربية وتطور دلالاتها- يحول دون رؤية آفاق النص التي تمثل شبكة من العلاقات، أو «نسيجاً» كما عبر القدماء، لا يكشفه محض التركيز على نمطيات لفظية تتردد، ربما بمحض التقليد، أو حتى الخطأ الروائي. كل تلك المناهج من وجهة رأيي كان تنتهي بأصحابها الى ضرب من المعميات المتفرقة. فإذا القارىء يريح النفس غالباً من عناء قراءة الشعر الجاهلي وفهمه - ناهيك عن قراءة تلك القراءات - باتهام الشاعر القديم بالسذاجة الفنية، أو بالقول: إن وراء الأكمة الدلالية ما وراءها مما اخترمته عوادي الأزمان. وذلك ما حاولت في كتابي هذا تلافي الوقوع فيه.
* قد يثار التساؤل حول كتاب ك«مفاتيح القصيدة الجاهلية»: أولاً، لما يتضمنه من نبش في أساطير العرب الجاهلية من جهة، وثانياً، حول أهمية مثل هذا الطرح للقارىء اليوم؟
- هذا سؤال مهم. أولاً، يجب أن نعلم ان اشارات الشعر عموما لا تتحرك ولا تؤدي رسالتها إلا في فلك خاص بها، يسمى «السياق». هذا ما يقرره النقد، منذ عبدالقاهر الجرجاني قديما الى رومان جاكبسون R.Jacobson أو غيره حديثاً. فضابط القراءة دائماً: التمكن من مبدأ السياق والالتزام به، والافتراض ان الشعر الجاهلي كالشعر الاسلامي عند القراءة اغفال لمبدأ السياق، يؤدي الى فهم خاطىء للنص ناهيك عن عجز في المتح من معينه الثقافي الذي بوسعه أن يفيدنا في ضروب معرفية لا حصر لها عن ماضي العرب وحاضرهم. فلا أرى محظوراً إذن في هذا المنهج، لا ثقافياً - ما دمنا نسلم بأن أصحاب النصوص وثنيون - ولا نقدياً- ما دمنا نسلم بمبدأ السياق في عملية القراءة. وإنما الخلل كل الخلل في اغفال السياق أو اجتلابه اجتلابا، أما أهمية مثل هذه الدراسات للقارىء اليوم، فهي تأتي من أهمية الوعي بالسياق الأشمل للثقافة العربية، لقراءة ملامحها القديمة والحديثة، إنه كما يلزم الطبيب ان يدرس تاريخ الحالة التي أمامه بهدف التشخيص السليم لراهن وضعها ويلزم الباحث أن يدرس تاريخ الحالة التي أمامه ما بهدف التشخيص السليم لراهن عهدها. والأمة العربية - بقيمها وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها، بقضها وقضيضها - وريثة تراكمات من الأفكار والتصورات والمعتقدات. ومن الجهل أو التجاهل الظن أنها قد تخلصت تماماً من الرواسب والعقابيل. لقد جاء الاسلام بمثابة ثورة على العقل العربي، كما جاء التعرف على ثقافات الآخر، قديماً أو حديثاً، ثورات أخرى نقدية متعاقبة نحو تقويم الذات الثقافية، ولا سبيل اليوم الى التقويم دون بصيرة بالجذور التي ما انفكت تغذي أغصان الشجرة العربية، بحلوها ومرها. هذا في مجال الأهمية الثقافية العامة لهذا النوع من الدراسات التراثية، أما في الحقل التخصصي، المتعلق بالأدب والنقد، فلا أظن الأهمية محل تساؤل.
الأرقام والرموز
* يلاحظ أنك تعتمد في بحوثك كثيراً على الرموز والأرقام والمنهج الإحصائي، مما يشكل صعوبة على القارىء أحياناً؟
- ذلك لأني أحاول أن أقدم عملاً يمكن للقارىء الجاد ان يخرج منه ببرهان علمي، أو شبه برها. وهذا سؤال أثير مثلاً عن كتابي الآخر «الصورة البصرية في شعر العميان، دراسة نقدية في الخيال والابداع». لدينا طائفة من القراء - بل من الأكاديميين أحياناً - لم يتمثلوا بعد ان النقد ينبغي ان يقارب الموضوعات بعلمية بوصف النقد علماً، أو يسعى لكي يكون كذلك، ولذلك فهم ما ان يلحظوا في بحث ما جداول أو خطاطات، حتى يجفلوا، والحكم النمطي في جعبتهم جاهز، هاهي تي «الحداثة» أو «البنيوية»، وما أورثتانا إياه من طلاسم وغموض وأحاج، إذا لم يقذفوك بما هو أكبر. وياليت أولئك ينعمون على الكاتب وعلى القراء بالدلالة على أحجية واحدة من تلك الأحاجي التي حيرتهم، لعله يستطيع حلها، لكنهم لا يفعلون؛ لأنهم لا يقرؤون! لذلك فإن مثل هذه الأحكام التعميمية لا تسهم إلا في محاولة هدم الجهد الذي بذله المؤلف، ناهيك عن هدم أي معرفة ممكنة من خلال الحوار معه، أما الرموز، فعنوان الكتاب يشير الى أنه «رؤية نقدية جديدة» «عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا». والدراسة تنطلق أساساً من رؤية القصيدة الجاهلية على أساس أنها شبكة من الرموز التي تحيل الى أساطير العرب ومعتقداتهم، ولاشك ان هذا وجه صعوبة في الكتاب، كانت قد واجهت المؤلف قبل القارىء، لكن هذه هي طبيعة الموضوع، ف«مفاتيح القصيدة الجاهلية» ليس كتاباً لشرح القصيدة الجاهلية - حسبما فهمت عادة وشرحت عبر العصور - وإلا لما كان هذا الكتاب أصلا، أما الأرقام، فليس هناك أكثر من إشارات الى أرقام الأبيات، وعدد أبيات القصائد، من خلال بعض الجداول الإحصائية، وقد شُرحت دلالات ذلك كله. على أنني سأعترف هنا بأنه يُعجزني فهم تلك الذهنية التي ترى وسائل الايضاح العلمي - والمستعملة للناشئة منذ المراحل التعليمية الأولية - بعكس ما وُضعت له وهدفت اليه، فإذا هي تصفها وتصف العمل المصاحبة له بالصعوبة والالغاز! غير أن مردّ ذلك غالباً الى ان القارىء لدينا قد درج على كتابات انشائية تقليدية حول النصوص، يقرأها قبل النوم لأستدعاء النوم. أي تلك الكتابات التي تُسمى عادة نقداً، وما هي - إذا أُحسن الظن بها - بأكثر من كتابات انطباعية موازية، أو كتابات على كتابات. نعم، هذا النوع له حيّزه المقبول من النقد، لكن بحثاً لا يطمح الى الخروج باجابات محددة ومدعومة بشواهد من المادة اللغوية للنصوص، إنما هو في آخر المطاف تلهٍّ فارغ بالكلمات. المفارقة تظهر لدى بعض هؤلاء الذين يقفون موقفهم هذا من الاحصاء والأرقام، حينما تكتشف أن سبب اعتراضهم هو محاولة إلزامك بمنهج يميلون اليه هم، إذ يقول لك أحدهم مثلاً إن المدخل النفسي كان أجدر بأن يأخذ الدور في دراسة هذه الظاهرة أو تلك؛ ذلك لأن صاحبنا منشغل بالمنهج النفسي، فلم يعد يرى شيئاً إلا من خلاله، ويريد أن يلزمك - كيفما اتفق - بما ألزم به نفسه. أو آخر، بعد ان يأخذ عليك الإحصاء في بحثك إذا هو يحصي عليك معارفه الشخصية، فيأتيك ليقول:«لقد فاتك أن تدرس نص فلان؟.. وأين أنت عن فلان؟.. وكيف أغفلت الإشارة الى فلان؟»، أو «كيف لم ترجع الى الكتاب الفلاني؟»، وربما لم يكن بين عملك والكتاب الفلاني المشار اليه من صلة إلا في ظاهر العنوان. وكأن من واجبك إذن أن تحصي ما قيل، وما يقال، لا أن تنتخب منه عينة محصورة، تماماً كما يفعل عالم حينما يحلل قدراً ضئيلاً من ماء البحر ليستخلص منها خصائص البحر كله؛ إذ ليس بمضطر الى ان يحلل ماء البحر كله ليتوصل الى مستنتجاته تلك. وهكذا يتبدّى أن من مشكلاتنا القرائية - الى جانب اعتيادنا على ما سهل فهمه وتناوله - عدم التفريق بين الطرح العلمي، الذي ينهض على شروط منهجية محددة - التزم بها الباحث وهو يرجو أن يلتزم بها القارىء بدوره - وبين التأليف والتصنيف العام، بمفهومه القديم. وهنا تلحظ أن عقلاً تتفق فيه هاتان النقيضتان، «النفور من الإحصاء، مع إلزامك مالا يلزمك مما يحصيه عليك» يفتقر أساساً الى التفكير المنطقي، ناهيك عن التفكير المنهجي. أما القارىء الكسول، أو غير المنصف، أوالمتكسب، ومن يمارس الكتابة للكتابة، فلن تفيده مثل هذه الاجابة بشيء؛ لأن قضيته «مطبوخة» سلفاً.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved