Saturday 15th march,2003 11125العدد السبت 12 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الإشكالية المتجددة: الإشكالية المتجددة:
التصادم مع الغربي الديني أم التواصل مع اللاديني؟
عبد العزيز السماري

يراوح وضع الإنسان العربي منذ عقود، بين بؤس الحياة في القبر، وبين حلم العيش من دون العالمين في الصدر، ويظل هذا الأمل، الحافز الأوحد الذي يدفعه لرفع رأسه قليلاً فوق سطح الأرض، ليهتف باسم القائد المظفر، وبحياة المجاهد الأكبر..، ويزيد الحال عسراً، أن هذا الإنسان، يتعلم ويطالب من خلال مثاليات الأخلاق، بينما صراعات الواقع لا تمت لها بصلة، لذا اعتاد القائد المجاهد، بسبب ضعف ذاكرة ذلك الإنسان، أن يمتطي مراراً واجبات الأخلاق نحو منصة السياسة، ثم الانفراد بها في الصدر من دون العالمين، وأدى تكرار هذه الصورة النمطية من الاستبداد، إلى خلق ذهنية قابلة للتطرف عند دعاة التغيير، وإلى تكوين طبيعة غاضبة وشرسة، لا تؤمن بقيم التسامح، ولا تقيم وزناً للأخلاق عند إدارة أزماتها مع السلطة، وهي نفس الأرضية التي ساعدت على رواج طرح يستمد حركته من ثلاثية متمثلة في جاهلية المجتمع، والحاكمية لله، وإعلان الجهاد لفرضها على الفرد والمجتمع، وقاعدة التغيير المتطرفة في المجتمع العربي لا تستمد مبادئها من جذور متفق عليها في أصول الاسلام، ولكنها تفجرت بسبب واقع مهزوم، واقتصاد متدهور، وحقوق مفقودة، و«إنسان».. لا يوقظه من سباته الدائم في القبر، إلا صوت المعركة.والكثير يعتقد جازماً أن قضية فلسطين، وتأسيس دولة إسرائيل على أراضيها العربية، أحد أهم أسباب سيطرة شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، لتتدهور بسبب استبداده، خطط التنمية الاقتصادية، والتعليمية، وتزداد سطوة الأنظمة السياسية ويستمر رفضها التام لصحة تطبيقات نظرية التطور في الحكم، وزاد الحال سوءاً ثم شللا، نشوء نظرية المؤامرة، وهي زاوية من الرؤية، تضع الغرب بكل اطيافه، وبالتحديد المحور البريطاني الأمريكي، في موقع الشك والريبة، ومع ذلك لم يتوقف تقديم الخطابات التي تطالب بتطبيق واجب الاخلاق، وتجديد الدعوات التي تنادي بتحكيم القيم المشتركة لكن القضية خسرت جولاتها، ورفضت طلبات استئنافاتها، كما فشلت مرافعات المثقفين والعلماء المستمرة في التأثير على وجهة نظر الحاكم بأمره في البيت الأبيض.. والموقف الأمريكي تجاه قضايانا، على وجه التحديد يناقض القيم الأخلاقية حسب مرجعية الأخلاق الإسلامية، «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وما اتفق عليه من قيم إنسانية مع الغرب، وأيضا يتنافى مع أخلاق الحداثة الغربية، التي مهما اختلفنا مع أصولها، إلا أنها لا تبرر على الاطلاق مواقف التناقض والظلم والانحياز، وقد تفسر تأثيراتها الفكرية الوقفة الشجاعة والمشرفة للفعاليات الثقافية، والأكاديمية، ومعظم شعوب الغرب ضد نوايا الحرب غير الاخلاقية، وربما بعض المواقف الرسمية ضد التناقض الأمريكي، وسياستها المتطرفة تجاه العراق حاليا، وتجاه قضية فلسطين على مر العقود السابقة، تكشف لنا بجلاء أن الغرب ليس طيفاً واحداً، بل أطياف متعددة.ولعلنا أسأنا فهم خلفية نشوء وتطور فلسفة الحداثة العقلانية الغربية، والتي كانت بالفعل ثورة ضد أصول التطرف المسيحي العنصري، وسلطة الكنيسة البابوية، ومتأثرة إلى حد كبير بالمد الرشدي الاسلامي، والأخلاق العربية التي اكتملت بنزول الرسالة المحمدية، وبأصول التراث الفلسفي اليوناني، ومن الخطأ الفادح ان نعتبر الحداثة الغربية علامة على تدهور أخلاقي في الغرب، فهي بالتأكيد ثورة إنسانية ضد مرجعية الأخلاق البروتستانتية العنصرية، وخلفيتها التوراتية المتطرفة.
وموقف الإدارة الأمريكية متشدد، ولا ينسجم مع أصول فلسفة الحداثة الغربية، وقيمها التي اتحدت عليها الولايات الأمريكية بعد استقلالها، ولنا أن نتساءل عن سر ما يحدث من تناقض وتضاد في الغرب، ولماذا هذا الاصرار الانكلوساكسوني على تطبيق سياسة عنصرية متناقضة في الشرق، ابتداء من وعد بلفور، مروراً بتهميش قرارات الأمم المتحدة تجاه إسرائيل، وانتهاء بتلك الرغبة الشيطانية في احتلال العراق.يجيب عن السؤال الكاتب سمير مرقص في مقال له في جريدة النهار اللبنانية، الأحد 21 نيسان 2002م يتحدث فيه عن الأصولية البروتستانتية في صورتها الجديدة، وبالتحديد عن عام 1942م الذي يعتبر نقطة تحول مهمة في تاريخ الأصولية الجديدة، حيث تأسست الرابطة الوطنية للانجيليين، والتي تضم تحت لوائها آلاف الكنائس، وهي حركة تعتمد على أصول تشكلت مع بدايات القرن العشرين، وتبلورت فكرياً بعد نشر سلسلة من (12) مجلداً تحت عنوان «الأصول»، تضم تسعين مقالة حررها مختلف اللاهوتيين البروتستانت، وتعارض كل تسوية أو حل وسط مع «أخلاق الحداثة الغربية» من عدالة وحرية ومساواة، وترسم الاطار النظري لدور الاله في تطهير الثقافة السائدة، وشن حرب مقدسة ضد الشيطان القابع في قلب الوطن، وتجعل من التوراة قاعدة للأخلاق البروتستانتية التوراتية، وأن البيض الانكلوساكسون البروتستانت هم شعب الله المختار، وبقايا سلالة قبائل إسرائيل..!
وتتخذ علاقتهم الحالية مع اليهود الصهاينة في فلسطين محوراً استراتيجيا في سبيل تحقيق أهدافهم الدينية في المنطقة، ولا تؤمن هذه الحركة بمبدأ المساواة مع اليهود، فهم أدنى جنسا، ولكنهم أسمى من غيرهم من الأجناس الملونة، وليسمح القارئ ان أصطدم بإحدى مسلماته، وهو القول الذي يتم تسويقه من خلال الخطابات السياسية، والاعلامية والذي يروج أن اللوبي اليهودي في أمريكا، هو سبب انحياز السياسة الأمريكية الخارجية مع إسرائيل، فالحقيقة حسب المرجعيات البروتستانتية المتطرفة، والمنتشرة على صفحات الشبكة العنكبوتية، تتحدث عن هدف ديني مشترك.
والجدير بالذكر ان الاعلان الأمريكي للاستقلال استمد مبادئه من شعارات الثورة الفرنسية، ولكن المد العبراني البروتستانتي ما لبث إلا أن حد من انتشار المبادئ الانسانية الخارجة عن أصول التطرف الانكلوساكسوني الديني في أمريكا الشمالية، لتصبح منتجات التكنولوجيا والتقنية مجرد أداة لاستمرار أصول الفوقية البيضاء والعنصرية الدينية في الثقافة الامريكية السائدة، وهو المد المتطرف الذي دفع جفرسون الى تقديم اقتراح الى الكونجرس مفاده: «أن يمثل رمز أمريكا على شكل أبناء إسرائيل، تقودهم في النهار غيمة، وفي الليل عمود من النار».. ويتفق هذا الاقتراح مع النص الوارد في سفر الخروج.
وخلاصة القول إن مأساة الانسان في الشرق ترتبط بجذور الاستبداد وبهيمنة سلطة الفرد في ثقافة العرب، فالأخلاق الاسلامية لا تبشر بفوقية عنصرية أو بمشروعية ظلم وقتل الأبرياء أو المخالفين، وما حدث في سبتمبر 2001م هو مجرد إحدى حلقات مسلسل التراوح بين واقع القبر وحلم الصدر العربي وأحد وجوه الايمان بحتمية التصادم مع ثنائية التطرف الغربي والاستبداد السلطوي الشرقي.بينما اشكالية التطرف الديني الانكلوساكسوني على وجه التحديد، هي في مرجعية أصول الاخلاق التوراتية البروتستانتية العنصرية، وهذا يدفعنا الى سؤال متجدد، في ظل وضوح الصورة وكشف حقيقة الاشكالية الدينية البروتستانتية مع أخلاق الحداثة، وتصاعد الرفض الانساني ضد التطرف في الغرب، وهو: هل أسأنا عن جهل فهم جذور أخلاقيات الحداثة الغربية، ممثلة بمواقف فلاسفتها ومثقفيها ضد تطرف العنصرية البروتستانتية التوراتية؟ وهل أدركنا مدى استحالة التواصل أو الالتقاء مع الدين في الغرب الانجلوساكسوني المتطرف دينيا، ومدى كارثية تبعات التصادم معه؟ في ظل انفراده بالقوة في العصر الحديث، بينما يبقى الخيار الأمثل، هو التواصل مع مبادئ العقلانية المضادة للدين العنصري، فمهما اختفلنا مع كثير من أصولها إلا أنها تبقى على الاقل تؤمن بالحد الأدنى المشترك من الأخلاق، وبالتعددية والمساواة والعدالة، وتعد الاتجاه الأمثل لإيجاد نقطة التقاء مع كثير من دعاة وفلاسفة السلام والعدالة الغربيين، الذين دأبوا منذ قرون على ادانة عنصرية التطرف البروتستانتي التوراتي في الغرب.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved