Sunday 11th may,2003 11182العدد الأحد 10 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الحَالة «العِرَاقِيَّة».. على المشْرحة «الخَلْدُونِيَّة»..؟! الحَالة «العِرَاقِيَّة».. على المشْرحة «الخَلْدُونِيَّة»..؟!
حمّاد بن حامد السالمي

* لم تكن الحالة العراقية المأساوية، هي الأولى في التاريخ العربي والإسلامي، وقد لاتكون الأخيرة، لكني أعتقد أنها هي الأشد والأشذ معاً، فهي إذن بضراوتها هذه، غير مسبوقة، وهي كذلك ربما تكون، غير ملحوقة. فعلى مدى قرابة خمسة عقود من الحكم الجمهوري في العراق، والشعب العراقي يعيش بين مد وجزر، تتناوبه انقلابات عسكرية، تعقبها انتقامات وتصفيات، ثم ترفع شعارات تلو شعارات، لمشاريع قومية عروبية تارة، أو وطنية قطرية تارة أخرى، وهذه أو تلك، هي عرضة للتغيير والتبديل، وفق مزاجية الحاكم الفرد، الذي كان يتخذ من الغزوات الحربية، والحملات العسكرية، أدوات وحيدة، لإرضاء غروره، ولبسط نفوذه، ولتسلطه وإدامة وجوده.
* هذه الوضعية المضطربة في أرض السواد، خلقت حالة من الارتباك المزمن للمجتمع العراقي، الذي لم يستوعب أداء الدولة العراقية في عهدها الجمهوري، لأنها ظلت تتقلب - بل تترنح - سياسياً وعسكرياً وأيديلوجيا، وظلت رهينة لنزوات حاكمية جبروتية، لا تجيد فنون السياسة والحكم، لكنها تتقن السيطرة بالظلم، حتى لو أدى ذلك، إلى سحق آلاف الناس، وسحل الرموز المضيئة، و فرم المعارضين مثلما تفرم لحوم المواشي، والتخلص من المناوئين والمعارضين، بتهجيرهم، أو بغازات سا مة، أو بتذويبهم في محاليل قاتلة.
* استخدمت السلطة المتسلطة في العراق، جميع وسائل التعذيب والتنكيل والقهر، وظلت تطلب من أربعة وعشرين مليون إنسان عراقي، مقابلة هذا الظلم والعدوان عليه، بالشكر والتبجيل والتحميد، لمن يظلمونه ويعتدون عليه. هذا.. ولسان هذه الملايين المظلومة، يردد في «صمت» مع شاعر العربية:
ولم أر ظلماً مثل ظلم ينالنا
يُساء إلينا.. ثم نؤمر بالشكر..؟!
* وبأمر «السيد الرئيس»، ظلت الحكومة العراقية البائدة، تتبنى مشروعاً واحداً في العراق، هو مشروع «الظلم»، ولا شيء غير الظلم، فهي من خلاله، تهين العراقيين، وتدوس كرامتهم، وتذلهم في أرضهم وأهلهم، وتسلب أموالهم، وتبخس حقوقهم، حتى إذا جاء صباح، اليوم التاسع من أبريل، من العام الثالث في الألفية الثالثة، أفاق هذا الشعب المظلوم، على سراب بقيعة، فهو بعد نصف قرن مضى، أشبه بحطام..! أناس يتحركون ويتكلمون، لكن.. بنفوس مجروحة، وكبود مقروحة، وثروات منهوبة، وظلامات غير مرفوعة، فقد لاذ الطغاة والجناة في اللحظة الأخيرة بالفرار، مخلفين وراءهم الخراب والدمار، ومبقين إلى أمد غير معروف، كماً من الأحقاد والضغائن والثأرات الفظيعة. ولكن العزيز المنتقم الجبار، لكل طاغية بالمرصاد:
وما من يد إلا يدالله فوقها
ولا ظالم إلا سيبلى بأظلم..!
* إنه الظلم الذي مورس ضد الإنسان في هذا البلد بشتى الصور، وقد رأينا بأم أعيننا، النتيجة التي آل إليها هذا البلد الكبير، لقد كانت النهاية سعيدة، لأن أركان الظلم تهاوت، لكن بعد ماذا..؟ بعد أن عمّ الخراب والدمار، فشل أنفس الناس قبل الديار.
* لقد دالت دولة الظلم حيناً من الدهر، ثم ها هي قد زالت، لكنه زوال جاء متأخراً نصف قرن..! وهي مدة كانت كافية، لخلق حالة مرضية غريبة نادرة، ومستعصية.
* هذه الحالة المريضة ب«الظلم» في عراق اليوم، عالجها مفكر عربي شهير، هو عبدالرحمن بن خلدون «1332 - 1406م»، الذي أرجع أسباب «خراب العمران ودماره» في البلدان، إلى «الظلم».. الظلم.. ولا شيء غير الظلم..!
* قال ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة:
1- إن العدوان على الناس في أموالهم، ذاهب بآمالهم، في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذٍ من أن غايتها ومصيرها، انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها، انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك.. إذا قعد الناس عن المعاش، وانقبضت أيديهم عن المكاسب، كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال، وأبذعرّ الناس في الآفاق..!
2- لا تحسبن الظلم، إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب، كما هو المشهور، بل الظلم أعمُّ من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد، أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع، فقد ظلمه.
3- جباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغُصَّاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله، عائد على الدولة، بخراب العمران الذي هو مادتها، لإذهابه الآمال من أهله.
4- إن الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، هو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع، في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
5- لما كان الظلم مؤذناً بانقطاع النوع، لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الخطر فيه موجودة، فكان تحريمه مهماً، وأدلته من القرآن والسنة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر.
6- لو كان كل واحد قادراً على الظلم، وضع بإزائه من العقوبات الزاجرة، ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع، التي يقدر كل أحد على اقترافها، من الزنا والقتل والسكر، إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه، لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان، فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه، عسى أن يكون الوازع فيه، للقادر عليه في نفسه، وما ربك بظلام للعبيد.
7- لا تقولن بأن العقوبة قد وضعت بإزاء الحِرَابة في الشرع، وهي من ظلم القادر، لأن المحارب زمن حرابته قادر، فإن في الجواب عن ذلك طريقين:
الطريق الأول: أن تقول: العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أموال على ما ذهب إليه كثير، وذلك إنما يكون بعد القدرة عليه، والمطالبة بجنايته، وأما نفس الحِرَابة، فهي خلوٌ من العقوبة.
الطريق الثاني: أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة، لأنا إنما نعني بقدوة الظالم، اليد المبسوطة، التي لا تعارضها قدرة، فهي المؤذنة بالخراب، وأما قدرة المحارب، فإنما هي إخافة، يجعلها ذريعة لأخذ الأموال، والمدافعة عنها بيد الكل، موجودة شرعاً وسياسة، فليست من القدر المؤذن بالخراب.
8- من أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران، تكليف الأعمال، وتسخير الرعايا بغير حق، وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات.. لأن الرزق والكسب، إنما هو قيم أعمال العمران، فإذا ما سعيهم وأعمالهم، كلها متمولات ومكاسب لهم سواها، فإن الرعية المعتملين في العمارة، إنما معاشهم، بطل كسبهم، واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متمولهم، فدخل عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة، و إن تكرر ذلك عليهم، أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملة، فأدى ذلك إلى انتقاص العمران وتخريبه.
9- أعظم ما في الظلم، وإفساد العمران والدولة، التسلط على أموال الناس، بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، على وجه الغصب والإكراه، في الشراء والبيع، وربما تفرض عليهم الأثمان، التواحي والتعجيل، فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم، بما تحدثهم المطامع من جبر، ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع، التي فرضت عليهم بالغلاء، إلى بيعها بأبخس الأثمان، وتعود خسارة ما بين الصفقتين، على رؤوس أموالهم، وقد يعم ذلك أصناف التجار، المقيمين بالمدينة، والواردين من الآفاق في البضائع، وسائر السوقة وأهل الدكاكين، في المآكل والفواكه وأهل الصنائع، فيما يتخذ من الآلات والمواعين، فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات، وتتوالى على الساعات، وتجحف برؤوس الأموال، ولا يجدون عنها وليجة، إلا القعود عن الأسواق، لذهاب رؤوس الأموال، في جبرها بالأرباح، ويتثاقل الواردون من الآفاق، لشراء البضائع وبيعها، من أجل ذلك، فتكسد الأسواق، ويبطل معاش الرعايا، لأن عامته من البيع والشراء.
10- وإذا كانت الأسواق عُطُلا من البضائع، يبطل معاش الناس، وتنقص جباية السلطان، أو أنها تفسد، لأن معظمها من أوسط المدينة وما بعدها، إنما هو من المكوس على البياعات، ويؤول ذلك إلى تلاشي الدولة، وفساد عمران المدينة، ويتطرق هذا الخلل، على التدريج، ولا يشعر به هذا، ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب، إلى أخذ الأموال.
11- أما أخذ هذه الأموال مجاناً، والعدوان على الناس، في أموالهم، وحرمهم، ودمائهم، وأسرارهم، وأعراضهم، فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة، وتنتقض الدولة سريعاً، بما ينشأ عنه من الهرج، المفضي إلى الانتقاض.
12- من أجل هذه المفاسد، حظر الشرع ذلك، وشرع المكايسة، في البيع والشراء، وحظر أكل أموال الناس بالباطل، سداً لأبواب المفاسد، المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج، أو بطلان المعاش.
* انتهى كلام المفكر العربي الكبير «ابن خلدون».
* وفي تراثنا العربي العظيم، قول فصيح وضيء غير جهيم، يختزل قضية الظلم بين البشر، وما ينتج عنها من آفات، في بعض كلمات. قال العرب: «الجور آفة الزمان، ومُحْدِث الحدثان، وجالب الإِحَن، ومسبب المحن، ومحيل الأحوال، وممحق الأموال، ومُخْلي الديار، ومحيي البوار».
* أما الذين تجرعوا مرارة الظلم من بين الشعب العراقي الشقيق، فعزاؤهم في وعد رب العالمين، الذي قال وهو أصدق القائلين: {وّسّيّعًلّمٍ الذٌينّ ظّلّمٍوا أّيَّ مٍنقّلّبُ يّنقّلٌبٍونّ}.

فاكس: 7361552/02

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved