Sunday 11th may,2003 11182العدد الأحد 10 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مخيم جنين وذاكرة معركة الحواسم مخيم جنين وذاكرة معركة الحواسم
عادل علي جودة

انتهت المهلة التي حددها رئيس النظام العالمي - بدون «الجديد» - للرئيس العراقي لمغادرة بغداد والعراق، لتعود الذاكرة مجدداً الى احداث حرب الخليج الثانية عام 1991م، ومع تزاحم الصور والمشاهد ترتبك دقات القلب، وتضطرب الانفاس، وتهيمن على الفكر احلام وتمنيات، والوقت يمر بطيئاً ميتاً، لم تعد القوانين هي القوانين، المعايير كلها تبدلت، والانتظار قاتل، الدقيقة لم تعد ستين ثانية، بل عكست الاتجاه لتصبح ستين ساعة، واخيراً دقت ساعة الصفر، بدأ القصف، وبدأ الخوف يصارع الامل، كل فرد ينظر الى الآخر وعلامات الاستفهام ترتسم على محياه، يا إلهي، وفقاً لما أتيح لها من تحركات، كل شيء على الهواء، قيل أن القصف الأول لم يكن بدايةً للحرب، وإنما هو تلبية لهمس ضعاف النفوس من العملاء الخائنين - ودوماً تلك هي مصيبتنا - بأن صدام يعقد اجتماعاً مع رفاقه في تلك الساعة وذلك المكان، وبدأت التساؤلات: أين صدام؟ وأين رفاقه؟ لا صوت لأي منهم ولا صورة، هل قُتل؟ او هل قُتلوا جميعاً؟ وبعد طول انتظار أطل علينا وزير الإعلام ونقل الصورة كاملة للإعلاميين الذين سُجنوا داخل فندق فلسطين ومُنعوا من التحرك إلى مواقع القصف، تحدث الوزير كثيراً، ومن بين ما قال أن صدام حي وسيلقي خطاباً للأمة، فهدأت النفس قليلاً، وحمدنا الله سبحانه وتعالى وشكرناه، وأهمس في أذن قارئي بأن ذلك الحمد والشكر لم يكن حباً في صدام، أو إعجاباً بتاريخه، اولانه المنتخب من الشعب العراقي بنسبة 99 ،99%، ولكن خوفاً على العراق وشعبه وتراثه وحضارته، ثم خوفاً من قادم مجهول يجدد أمجاد هولاكو، وبالفعل ظهر صدام وقرأ خطابه من اوراق ملخبطة، أحياناً الكتابة على وجه واحد، وأخرى على وجهين، وبخط يدوي يبين ارتباك كاتبه، وخاتمته غير مستقرة، مما جعل صدام يرجع إلى صفحة سابقة او صفحتين ليعود لكلمته المشهورة التي يرددها - فقط - في الأزمات «عاشت فلسطين.. والله أكبر وليخسأ الخاسئون»، المهم أن وزير الإعلام صدق، مما يبشر بأن الحرب فعلاً لن تكون سهلة، وبدأ يظهر علينا بين الفينة والأخرى - بصحبة وزير الإعلام طبعاً - ذوو المناصب العليا من رفاق صدام، حتى رأينا صاحب الطلعة البهية، والطول الفارع، والنظرات البراقة، واللسان القوي.. إلى آخر تلك الصفات الجميلة حقاً، وللأسف لم نره ثانية على الإطلاق، إنه وزير الداخلية، ظهر على الشاشة بزيه العسكري، وعدد من القنابل تلتف حول خصره، ويحمل بيمينه رشاشه الفضي المتطور الجميل، وبدأ حديثه طالباً من الذين يشاهدونه الا يستغربوا كونه وزيراً للداخلية ويحمل سلاحاً، مؤكداً بأن الشعب كله مسلح بما في ذلك ابنه الذي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره يحمل بندقية اطول منه، وبحماس شديد - مثلما فعل صدام ووزير الدفاع ووزير الإعلام - اكد أن بغداد ستكون «محرقة» للقوات الأمريكية والبريطانية التي تحاول اقتحامها، ومن بين ما قال:« سنقلتهم في أرض العراق»، وتوعدهم بمقاومة لم يشهدوا لها مثيل، وبدرس لن ينسوه، الواقع انه شدني وطمأنني بعباراته الساخنة بل الملتهبة استعداداً لمعركة ستضع حداً لغطرسة الأمريكان ومن معهم، وبطبيعة الحال اراد أن يبرهن على ما يمكن ان تفعله المقاومة بالمعتدين فتحدث عن انتفاضة الشعب الفلسطيني، والحجر الفلسطيني، والأم الفلسطينية، ثم ختم حديثه بفلسفة لذلك البرهان بقوله - واضع عليه علامة تعجب متبوعةً بعلامة استفهام وللقارئ الكريم أن يزيد ما يشاء من العلامات - انه إذا كان الشعب الفلسطيني قد فعل كل ذلك بإسرائيل بكل ما تمتلكه من قوة وجبروت، - ثم اكمل متلعثماً على ما يبدو انه ادرك عدم الحاجة لهذه الفلسفة - فما بالكم بالعراق وما لديه من سلاح وتدريب وتجارب و..و.. إلخ!؟
لم ترق لي تلك العبارة، وشعرت بشيء من الضيق، الا انني في الواقع كتمت ذلك في نفسي ولم ابده حتى لابنائي، وقلت لم لا؟ فالرجل بإمكانياته وربما يكون صادقاً كما كان وزير الإعلام صادقاً في نفيه أن يكون صدام قد اصيب بسوء جراء القصف الامريكي الاول، فاذا كان الامر كذلك - وهذا ما نتمنى - فسأقول معه حق، فالشعب الفلسطيني فقير إلا من إيمانه بالله، أكثر من خمسين عاماً من الحروب انهكته وشردته، والكثير من المجازر الصهيونية التي تعرض لها - على مرأى من العالم كله - استنزفت ابناءه وقواه ثم جاءت الانتفاضة، التي حققت له الكثير من العزة والرفعة والكرامة، إلا أن الثمن كان كبيراً ومتنوعاً، استنزاف المزيد من ابنائه، وهدم بيوته، وحرق مزارعه، والحمد لله هو صابر وصامد ويحاول بما يتاح له من امكانات، وما يتلقاه من الدول العربية والإسلامية من دعم وتعضيد في مجالات عديدة ابرزها الشجب والإدانة والاستنكار!!! ولا يختلف اثنان انه لولا إيمان هذا الشعب وإصراره على المقاومة حتى تحرير ارضه، وصموده الاسطوري الذ يرفع رأس الامتين العربية والإسلامية شامخاً، لكانت فلسطين كما الاندلس، ولن تكون بإذن الله، وختمت حواري مع نفسي بدعوةٍ الى الله سبحانه وتعالى ان يشفي غليلي بحرب طويلة مريرة تلقن المعتدين الدرس الموعود.
واستمرت الحرب، او لنقل استمر الهجوم، فكلمة «حرب» - كمصطلع عسكري - لا تنطبق على ما جرى في بغداد، حتى دخل الغزاة الى مطار بغداد الدولي - مطار صدام الدولي سابقاً - وكانت هناك محاولة جميلة اسعدتنا كثيراً عندما قال وزير الإعلام انه اوفى بما وعد، إذ إن العمليات غير التقليدية وفدائيي صدام والحرس الجمهوري ارغموا المعتدين على ان يعودوا ادراجهم خارج المطار كلياً، وانهم محاصروان وانهم لا محالة سيقتلون، دب الحماس في نفوسنسا، كان ذاك في اليوم الثامن من نيسان، وفي اليوم التاسع اطل علينا وزير الإعلام ليصف ان تلك الدبابة التي تقف على الجسر والدبابات الاخريات محاصرة وأن افرادها لا يستطيعون مغادرتها وانهم سيحرقون داخلها، وانه قد بدئ التعامل معهم من قبل فدائيي صدام، وبعد ذلك اختفى، واختفى معه الجميع تاركين خلفهم المتطوعين المساكين يواجهون مصيرهم، وبدأت الطائرات الامريكية تقوم بالعابها البهلوانية في سماء بغداد، واستمرت المشاهد القاتلة الي ان وضعوا العلم الامريكي على وجه صدام «التمثال»، ثم العلم العراقي، ثم اسقطوه بلا علم.وبدأ ينخر في قلوبنا الألم، والدهشة تقتلنا، اين الحرس الجمهوري، اين فدائيوا صدام؟ اين حزب البعث الحاكم، اين المقاومة، اين المستنقع، اين الانتحار، اين صدام؟ اين وزير الدفاع؟ اين وزير الإعلام؟ ثم اين وزير الداخلية، ومع ذكر وزير الداخلية سحبت شعور الأسف لعدم ظهور ثانية، ثم توقفت، ولكن توقفي لم يكن في بغداد، وانما كان في رفح، والخليل، ومخيم جنين، وما ادراك ما مخيم جنين، مساحته تقل عن 1x1 كم وكان عصياً - فعلاً وليس قولاً - على رئيس الاركان الاسرائيلي «حينئذ» «موفاز» - الذي عزل القادة الصهاينة واحداً بعد الآخر لفشلهم في اقتحام المخيم -، حتى نفدت الذخيرة من ايدي اشباله الابطال بعد اكثر من اسبوعين من حرب حقيقية - ومجزرة بشعة سجلها التاريخ - استخدمت فيها اسرائيل الطائرات والدباببات والصواريخ والحصار، وكذلك هي الحال في فلسطين كلها، مدنها ومخيماتها وقراها، ولا اجد هنالك حاجة للاستطراد في وصف صمود المقاومة الفلسطينية بكل فئاتها على الارض الفلسطينية، فالانتضافة الفلسطينية كانت بمثابة المعلم المتمكن الشامل الوافي الذي استطاع ان يدخل كل بيت ويقدم الدرس الخاص جداًً تلو الدرس، ليس فقط لابناء الامتين العربية والإسلامية وإنما للإنسانية كلها، وبكل الوسائل التعليمية المعروفة وغير المعروفة والتي ابتكرها الابطال في ساحات الوغى، تلك الانتفاضة التي مازالت مستمرة حتى الآن، وستبقى بإذن الله حتى دحر الاحتلال، اوضحت عمليا ان هنالك من يؤمن بالله حق الإيمان، ويدرك ان الدماء تهون من أجل الارض قبل الفرد، ويعرف كيف يرفع رأس الأمة عزةً وكرامةً، وان هنالك من كان همه نفسه فغاص في وحل الغي والظلم والبطش، ومن ثم يكون سبباً في الهزيمة والذل والمهانة ليس فقط لشعب وارض مجدهما التاريخ على مر عصوره وإنما للعرب والمسلمين اجمعين، وفي كل حال حسم امر صدام الذي راق له أن يسمي المعركة باسم «الحواسم»، واختفى فدائيوه وذاب حرسه الجمهوري، ولكن بغداد باقية والشعب العراقي - الذي ادعى صدام انه انتخبه بالنسبة اياها، والذي يهتف اليوم بأجمل العبارات «لا لامريكا لا لصدام.. نعم نعم للإسلام - باذن الله باق، ولعلها تكون بداية الجهاد في العراق، الجهاد في الله اولاً ثم الدين والوطن.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved