Saturday 5th july,2003 11237العدد السبت 5 ,جمادى الاولى 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

صفحات مطوية من تاريخ بغداد صفحات مطوية من تاريخ بغداد
د. موسى بن عيسى العويس / إدارة تعليم منطقة الرياض

** الايمان بالله، والنزول الى حكمه، وأخذ العظة من القصص القرآنية، والعبرة من تاريخ البشرية هي في ظني من الأسباب الباعثة على استقرار الانسان ويقينه، وثباته أمام النوازل، ووثبات الاحداث مهما تعاظمت. وكنت ولا زلت أرى في انسحاب الانسان الى تاريخ الدول دليل وعي، وأمارة رشد، وآية نضج، وبخاصة متى كان الملتفت إليه لديه من قوة الاستيعاب والادراك، والتحليل والاستنتاج، والربط والموازنة ما يقيه شر المزالق، ويجنبه مواطن العثرات، ويقوده في الوقت نفسه الى مرافىء النجاح، وعوامل الانتصار.
* ومما يؤسف له ان يحظى مسار التاريخ باهتمام الغربيين اكثر من غيرهم، وان يُلمس حضوره في اذهان المفكرين وصُنَّاع القرار عندهم على صورة تغاير ما لدينا في العصر الحاضر، إذ كانوا يعدونه مدرسة الحكمة السياسية، والخبرة الحياتية، والتجربة الغيرية. وكثيراً ما دققوا في الأنظمة الماضية وتفرعاتها وانعكاساتها الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، مدفوعين بروح عصرهم، حيث كانوا يدركون ما يجابههم من قضايا اجتماعية وسياسية شائكة، فوجدوا في الوقوف عنده مستودع الحكمة والخبرة، وكنوز المعرفة والثقافة، والاضواء الكاشفة عن الاوضاع البشرية الراهنة اذا ما قوبلت بالماضي بكل ما يحمله من أبعاد للبشرية، وما يجسده لكل أمة من ازدهار او انحسار.
* وبنظرة إلي تراثنا نلحظ ان الأدب عاش أحداث التاريخ، ورصد منعطفاتها واتجاهاتها، وتجاوب معها أدق ما يكون التجاوب. وأعظم المواقف، وأكثرها فاجعة، وأشدها إيلاما خلدها الادب عامة، وأحياها الشعر منه على وجه الخصوص، وكانت في كافة صورها مذكية للعواطف الجياشة، مثيرة للخيال الوثاب، داعية للتفاعل والانفعال.
* وماضي بغداد التاريخي والأدبي تعكسه تطورات الحاضر ومآسيه، فما من حدث يقع عظم أو صغر الا وله من التاريخ اشباه ونظائر، وشواهد ومثائل، يقبس منه الانسان ما يرتضيه، ويحقق شيئاً من ذاته، وربما نفى منه ما عمق المأساة في نفسه، وكان سبباً من اسباب نكوصها وانتكاسها، وأي متتبع لفصول الاحداث التي آلت ببغداد الى السقوط، وما صاحب ذلك من مواقف مخزية، ومشاهد مؤلمة تجره الذاكرة الى الماضي، حينما استبيح قصر المتوكل في «الجعفرية». فعمَّ الخراب والدمار، واستشرى الفساد في الاخلاق بعد مقتل الخليفة. ولم يكن مشهد القصر وصور الانس والسرور الذي كان يعمره ببعيد عن خيال شاعر البلاد «البحتري»، الذي تفيأ ظلال القصر، ونعم في أمنه، اذ راعه ما رأى من الوحشة والخراب، والخوف والذعر الذي ارتاعت له قلوب الاطفال والنساء، فأنشأ يقول حين أهاجته مناظر الفزع، واستولت عليه مشاهد الرعب، عقب ذكريات العيش الناعم الغض، والحياة الرخية الراضية.


وربَّ زمانٍ ناعمٍ ثَمَّ عهده
ترقُّ حواشيه ويورقُّ ناضره
تغير حسن «الجعفري» وأنسه
وقوّض بادي «الجعفري» وحاضره
تحمل عنه ساكنوه فجأة
فعادت سواء دوره ومقاصره
إذا نحن زرناه أجدَّ لنا الأسى
وقد كان قبل اليوم يبهج زائره
ولم أنسَ وحش القصر إذ ريع سربه
وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره
وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت
على عَجَلٍ أستاره وستائره
ووحشته حتى كأن لم يقم به
أنيس ولم تحسن لعين مناظره
فما قاتلت عنه المنايا جنوده
ولا دافعت أملاكه وذخائره
ولا نصر المعتزُّ من كان يرتجى له
وعزيز القوم من عَزَّ ناصره
حلومٌ أضاعتها الأماني ومدةٌ
تناهت وحتف أوشكته مقادره
حرام عليّ الراح بعدك أو أرى
دماً بدمٍ يجري على الارض واتره
ولو كان سيفي ساعة الروع في يدي
درى الفاتك العجلان كيف أُساوره
وإني لأرجو أن ترد أموركم
الى خلف من شخصه لا يغادره
مقلِّب آراءٍ تخاف أناته

إذ الأخرق العجلان خيفت بوادره.
وما من قارىء لهذه الأبيات الا وتنكأه العاطفة تجاه الحاضر.
وتستبدُّ به الحيرة امام المستقبل، ولكن ألم يقل المؤرخون إن التاريخ يعيد نفسه، ونحن في غفلة عنه، معرضون عن تأمله، لاهون عن تدبره.
ولله في ذلك حكمة، يؤتيها من يشاء، وينزعها ممن يشاء.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved