Tuesday 8th july,2003 11240العدد الثلاثاء 8 ,جمادى الاولى 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

ليس تأبيناً ولا تفجعاً عليك يا أمي.. ولكنه اتعاظ وموعظة..! ليس تأبيناً ولا تفجعاً عليك يا أمي.. ولكنه اتعاظ وموعظة..!
د. حسن بن فهد الهويمل

كلما عظم المصاب، التاثت الألسن، وتعثرت العبارات، وغاض معين الكلام، واحتبست شبات القلم، وحق لها أن تحتبس، فما من كلمة تستطيع أن تجسد فقد الأعز، أو أن تفي بالحق للأكرم، ومع ذلك فلابد أن أقول، لا متفجعاً ولا مؤبناً، ولكن متعظاً وواعظاً، ومتخففاً من ضواغط الألم. ومثلما يسكّن الدمع والعويل تململ الأحزان في الأعماق، ينفس الكلام كرب المكروبين، والبررة أدرى بما تكنه القلوب المفجوعة بالآباء أو الأمهات.
وكم تتعطل لغة الكلام في لحظات الفرح الغامر أو الترح الساجر.
وكم يجهش الإنسان بالبكاء، حين يطفح كيل الأتراح، أو يفيض دفق الأفراح، ثم يكون أحدهما فوق طاقات الانسان الشعورية. وما تدفق الدموع إلا صمام أمان، يقي من الانفجار المهلك، وقد قالها رسول الهداية: إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.
وهكذا كل امرئ تجتاحه مشاعر الحزن، عند فقد حبيب، لا يجد بداً من أن يبكي، ويطيل البكاء، ويحزن حتى يمضه الحزن، بيد أنه في النهاية يخلد الى السكون والسكوت والسلو ونسيان ما فقد. ولولا الأمل والنسيان لتعطلت مصالح الانسان، والله الذي استعمر الناس في الأرض، هيأ لهم من الأخلاق والطبائع ما يساعدهم على مواصلة العطاء، رغم تفاهة الحياة، ولولا النسيان ما بقي على ظهر الأرض من دابة.
ومثلما يبتلي الله من يشاء من خلقه بشيء من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، فإنه ينعم عليهم بالصبر والسلوان، ويتفضل عليهم بالنسيان والأمل، وهما نعمتان مجهولتان، فمن بكى على حبيبه، يتصور أنه لن يسكت، ومن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، بسبب فقر أو خوف أو مرض أو ظلم، يتوقع أنها لن تتسع، ولكن كر الجديدين كسوافي الرياح، يطمس معالم الحزن، حتى تنهض لتجديدها مصائب أخرى. والله سبحانه وعد الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: {انا لله وانا اليه راجعون} بالصلوات والرحمة والهداية. وتلك أعطيات ثلاث، تنجي من هلكة الدنيا والآخرة، فهل تعدل صلوات الله على عبده الصابر المحتسب صلاة؟ وهل تضاهي نفحات الرحمة التي يتفضل بها عليه نفحات من إنس أو جان؟ وهل وعد الله لعبده المبتلى بالرحمة يساوي أي ثمن؟ {وّمّنً أّوًفّى" بٌعّهًدٌهٌ مٌنّ اللّهٌ} وعلى الصابرين المحتسبين أن يستبشروا ببيعهم الذي بايعوا به الله.
فالله حين يسبق قضاؤه الى محبوب، فينتزعه من بين محبيه، ثم يجد منهم الصبر والاحتساب والقبول والرضا، يحفهم بالسكينة ويتغشاهم بالرحمة، وفي الحديث: «إذا أخذت حبيبتي عبدي فصبر فله الجنة» أو كما قال. وعجب أمر المؤمن، وكل أمره عجب، إذا أصابته سراء فشكر، كان له أجر، وإذا أصابته ضراء فصبر، كان له أجر. والسعيد من كان من الشاكرين المأجورين، ينعم في دنياه بالسراء، وينعم في آخرته بجزاء الشكر، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه، ليمحص ذنوبه، أو ليضاعف أجره.
ولقد كان أولو العزم من الرسل أكثر خلق الله ابتلاء وامتحانا، امتحنهم الله في أنفسهم، وفي أممهم، وفي أهلهم، فصبروا على ما أصابهم، ويكفي أن نتذكر ما جرى للرسول الخاتم، من فقد حبيب أو ظهير أو سكن. فلقد مر بأبي هو وأمي بعام الحزن، وتعرض لحجارة العبيد والغلمان التي أدمت عقبيه، وطرد من مكة التي يحبها وتحبه، وطورد في طريق الهجرة، وتحالفت عليه الأحزاب، حتى بلغت القلوب الحناجر، وتجرع مرارة الإفك في أحب النساء إليه، وفقد اثنتين من بناته وابنه ابراهيم، فصبر واحتسب، ولم يقل إلا ما يرضي الله، ومن قبله أبو الأنبياء، ويعقوب، ويونس، وسليمان، ويوسف، وما جرى لهم من أممهم، وهم لها ناصحون، ومن تصور الحياة جنة وارفة الظلال، فجأته المصائب الجسام، وهو في غفلة عنها، فكان وقعها أليماً، وأثرها عصيبا. ومن استعد لمصائبها ونكدها وكبدها مرت عليه كما البرد والسلام، والمترفون هم الذين يفرحون بما أوتوا، وينسون عواقب الأمور، حتى يفجأهم بأس الله ضحى، وهم يلعبون، أو بياتاً، وهم نائمون.
وما من ضجة فرح إلا وتعقبها صرة حزن وألم، وما من قوة إلا الى ضعف، وما من نضرة شباب إلا الى ذبول وهرم ووهن، وما من صحة إلا وتليها علة، وحتى لو امتد العمر، وسلم الجسم من الأمراض، فإن الموت غاية كل حي، والعرب تقول: «ما رأيت علة كطول سلامة» وبئست حياة تنتهي بصاحبها الى أرذل العمر، حتى لا يعلم من بعد علم شيئا، يحجر عليه، وهو حي، وتقضى الأمور، وهو زائغ النظر، شارد الفكر، وكان من قبل مهيب الجانب وملء السمع والبصر.
وما تعلقنا بالحياة، وركضنا وراء سرابياتها، إلا لحكمة بالغة، لا يعلمها إلا هو، وكلما أشرقت بنور العقل، تبين العقلاء قبحها ودمامتها:


«إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق»

ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها الكافر شربة ماء، ولقد وصفها القرآن الكريم بأنها لعب ولهو في أربع آيات، والشاعر الحكيم هوَّن أمرها بقوله:


«نفسي التي تطلب الأشياء ذاهبةٌ
فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا»

ومهما تعلق الإنسان بوالد أو بولد أو بأرض أو بمال أو بجاه أو بمنصب أو بما شاء من لعاعات الحياة، فإنه مفارق، والحكماء المجربون لا يرون البكاء على شيء من لوازمها، فالموت مصير لا مناص منه:


«كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول»

والشاعر الآخر يقول:
«لدوا للموت وابنوا للخراب»
والزاهدون المزهَّدون، يرددون «وكل الذي فوق التراب تراب» ومع هذا فلا عمارة للكون إلا بقبول المغالطات، ومخادعة الأنفس، ولهذا أشار القرآن الكريم الى الغرور والتغرير {فّلا تّغٍرَّنَّكٍمٍ الحّيّاةٍ الدٍنًيّا}، {وّمّا الحّيّاةٍ الدٍَنًيّا إلاَّ مّتّاعٍ الغٍرٍورٌ}.
وفي كل يوم تطلع فيه الشمس، تستقبل الحياة مواليد يصرخون، وكأنهم يرفضون مبارحة القرار المكين، وتودع أمواتاً أضناهم الأنين، وكأنهم يرفضون ضيق اللحود، فمن عائدين بمواليدهم الى بيوتهم، تعلو وجوههم نضرة النعيم، ومن راحلين بأمواتهم الى قبورهم، ترهق وجوههم قترات الحزن والأسى، وهكذا الدنيا نزول وارتحال. لقد فجعت الأمهات بالأولاد، والزوجات بالأزواج، والآباء بالأولاد، والأصدقاء بالأصدقاء، وذرفت الدموع، وبحت الحلوق، وتجمدت الشفاه، وتخشبت الألسن، ثم تلاحقت الأيام والليالي لتطمس تجاعيد الحزن، حتى لا يسأل حميم عن حميم، فكأن المفقودين لم يدرجوا على ظهرها. ومهما تشبث الناس بالبقاء، وخادعوا أنفسهم، فإنهم راحلون، و{كٍلٍَ شّيًءُ هّالٌكِ إلاَّ وّجًهّهٍ }، وكل حادث الى زوال، حتى الحزن يزول، والدموع تجف، لتستعد الأنفس لصدمة أخرى وحزن جديد، فليس هناك متسع من الوقت لمعايشة حزن واحد ومصيبة واحدة، والمتنبي تساءل مستنكرا خلوص المرض اليه من زحام المصائب السابقة، وصور ذلك بتكسر النصال على النصال:


«وكنت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال»

وقال للحمى:


«أبنت الدهر عند كل بنت
فكيف خلصت أنت من الزحام»

وكل فرحة ولادة، تعقبها ترحة وفاة، وإذا لفظك رحم الأم، استعد لاستقبالك رحم الأرض، فأنت مولود قادم على الحياة، وهالك مُقدم الى حياة برزخية، لا يعلم كنهها إلا الله، {مٌنًهّا خّلّقًنّاكٍمً وّفٌيهّا نٍعٌيدٍكٍمً وّمٌنًهّا نٍخًرٌجٍكٍمً تّارّةْ أٍخًرّى"} وما تدري النفوس ماذا أخفي لها، وما بين لحظة القدوم وساعة المغادرة إلا زمن ليس لك منه إلا الساعة التي أنت فيها {وّمّا تّدًرٌي نّفًسِ مَّاذّا تّكًسٌبٍ غّدْا وّمّا تّدًرٌي نّفًسِ بٌأّيٌَ أّرًضُ تّمٍوتٍ}. ومع كل هذه التفاهات يصطرع الناس حول توافه الحياة. لقد كنت أرقب كل ساعة رحيل أمي، لأنها مسكونة بأمراض مستوطنة، إذا نزلت لا ترحل وحدها، ولكنني مع ذلك أفكر في ساعة الفراق، ولا أتصور فداحتها، وكم تساءلت: كيف يكون وقعها؟ وكيف يحتمل الإنسان فراق أمه التي تلقته نطفة لا ترى، وتشكل في أحشائها خلية خلية، نشز عظمه من دمها، ونبت لحمه من حلو لبنها؟ الأم التي لا يلذ لها طعام، ولا يهنأ لها مقام، حتى ترى ابنها ملء السمع والبصر، تؤثره على نفسها مع الخصاصة، تعلك له الطعام، وهي ساغبة، ثم لا تجرؤ على ابتلاعه، الأم التي كلما رأيتها عدت الى طفولتك الوديعة، فهي لا تراك كما يراك الناس، تخرق الأرض، وتبلغ الجبال طولا، وإنما تراك عرياناً مستلقياً، ترفس الأرض بقدميك، وتزوي شفتيها بيديك، وتنهش جسمها بأسنانك، تريدك بلثغتك التي لا تكاد تبين، فهي تقرؤها كأفصح ما يكون الكلام: تسبق الى حاجاتك، وكأنك جزء من جسمها، انفصل عنها ليتداعى معها، وتتداعى معه، تسهر لتنام، وتجوع لتشبع، وتعرى لتكتسي، وتشقى لتسعد. وإذا استويت على عودك، حصدتك امرأة أجنبية، قد لا تعينك على برها، ومن ثم تؤثرها على أمك، وتستأثر بك عنها، حتى لا تراك إلا عابر سبيل، تومئ لها برأسك، وتتمتم لها بلسانك بتحية رتيبة، تلحقك بنظراتها، وتخفي عنك زفراتها، لكيلا تعكر صفو حياتك، تضحك أمامك، وفي النفس ما فيها من الحسرات، ومع ذلك يظل فؤادها فارغاً، يتحرق عليك، ولا تبدي به، ولو علقتما أنت وزوجك لعرفتما أن البر سلف.
لقد أحسست أنني أدخل في حيوات جديدة، حيوات لم آلفها من قبل، فيها وحشة الوحدة، وخيفة الاغتراب. ومن ذا الذي يسد فراغاً تركته امرأة لا ترى الحياة إلا من خلالك، ولا الهناء إلا بوجودك، امرأة تلغي كل شيء من أجلك، بل ترى أنها لم تأت الى الوجود إلا من أجل أن تحملك في بطنها، وتحتضنك في حجرها، وترقبك بنظراتها، ترويك من صدرها، وترى كل شيء دونك، فأنت الأجمل منظراً، والأعذب صوتاً، تنطلق من بين يديها، وكأنك فلذة قدت من كبدها، فهي ترقبها لكي تعود، الأم ومن يبلغ مبلغها في الحب مع جفائك، والشفقة مع غلظتك، والمتابعة مع نسيانك. وما عرف قدرها إلا الله، حين جعل الجنة تحت أقدامها، وجعل النظر الى وجهها عبادة، وربط حقها بحقه أعطاها ثلاثة حقوق، فيما أعطى الأب حقاً واحداً، ووصى الإنسان بوالديه احسانا، ونهى عن الأف والنهر، وأمر بالقول الكريم، وخفض جناح الذل من الرحمة، وإذ تكون الأم كذلك، فإنها سوق رابحة، وغنيمة باردة، بل هي أقصر طريق الى الجنة، فهل استطعنا أن نرد لها أيسر حقها؟ والبررة الذين أعطوا ما يقدرون عليه، لم يعطوها حق لحظة من لحظات المخاض، ولا نوبة من نوبات الألم.
فيا أيها المدركون لأمهاتهم، اغتنموا فرصكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا وطول الأمل، لقد علمت بوفاة أمي، وأنا أرقب ذلك، فهي قد ردت الى أرذل العمر، وحين فجعت بها، لم تأت الملائكة الكرام لتربت على كتفي، وتشكر لي ما فعلت، بل تمثل لي الشيطان الرجيم، ليقول لي: فاتتك أمك أيها المسكين المفّرط، لقد كان بإمكانك أن تفعل أكثر مما فعلت، يالك من محروم بذّر كنوز الدنيا، فقد ملوماً محسوراً، كان حريصاً على أن يصرفني عنها في حياتها، وحريصاً على أن يغرس في قلبي خنجر الندم بعد وفاتها، نعم كان بإمكاني أن أفعل أكثر مما فعلت، أن أكون الى جانبها على السرير وقتاً أطول، فلقد كنت ألم بها ساعة من نهار، حتى إذا اطمأنت، وسكن روعها، تسللت لواذاً، أطارد توافه الحياة، لقد كانت تسعد بقربي، حتى لقد فاتحتني بذلك، يوم أن تعرضت «لجلطة» أفقدتها الوعي، فكنت أضع يدي على جبينها وسط آلات النبض والتنفس، ولما تمكنت من النطق، وصفت هذه اللحظة بأسعد اللحظات، ولأنها لما تزل، وحتى في ساعة العسرة، تؤثر راحتي على راحتها، فإذا استأذنتها أذنت، ودعت، ومن شدة شفقتها عليَّ، كانت توصي من حولها بألا يخبروني بوفاتها وأنا جائع، خشية أن أصدم، وتوصي بألا تدفن وأنا في سفر، بل عليهم أن يرقبوا عودتي، وألا ينزلها القبر أحدٌ غيري، لم يذهلها المرض، ولم تشغلها الآلام، وكل أم تكن لأولادها ما تكنه أمي، وتشفق عليهم بمثل شفقة أمي عليَّ، فيا أيها المحظوظون بوجود آبائكم وأمهاتكم اغتنموا الفرصة، فما من عاقل إلا ويقول: بعد فوات الأوان: ردوها عليَّ لعلي آفي ببعض حقها، وأتزود من البر والتقوى، ومن الخير للإنسان أن يدرك أبويه أو أحدهما، فيدخلاه الجنة، وما أتعس من أدركهما، أو أدرك أحدهما، فلم يدخلاه الجنة. لقد مررت بشدة، ولن أدعو لها بكل خير، كما فعل الشاعر من قبل، حيث عرف بها أعداءه من أصدقائه، وإنما أحمد الله على ما أفاء به عليَّ من نعمة، وما كشف لي من معادن أصيلة، وخير عميم، وتلاحم قوي، يربط أبناء البلاد وقادتها ورجالاتها، لقد غُمرت بأفضال، لست من أهلها، وتقدير لا استحق أيسره، وتجلت لي أصالة الأخلاق في الأمراء والوزراء والعلماء والزملاء والأصدقاء والأقارب، ولن أسرد المعزين شخصياً أو صحفياً أو برقياً أو هاتفياً من أصحاب السمو الملكي الأمراء والمعالي الوزراء والفضيلة العلماء وكافة الأصدقاء والزملاء، فلعل منهم متفضل صادق الدعاء وموفور الشكر. لقد تعلمت منعم الوفاء والزكاء، وما فعلوه من خير أدخل السرور على أخ لهم، هو أحوج ما يكون اليهم في هذه الظروف العصيبة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved