Monday 25th august,2003 11288العدد الأثنين 27 ,جمادى الثانية 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

متع السياحة متع السياحة
د. عبد الرحمن الحبيب

في أحد المساءات، قبل بضعة أسابيع شاهدت أحد معارفي في مطار بيروت، ولكنّي لم أعرفه في البداية.. كان لباسه بسيطاً عملياً أنيقاً، مع مشية توحي بأنه رياضي حيوي. فرغم عرج به من ألم واضح في قدمه كان يتحرك بروح مفعمة بالرشاقة حاملاً حقيبة يدوية تشبه تلك التي يحملها الرحّالة الراجلين.. قلت هذه مواصفات سائح نهاري نشيط.. أي ليس عربياً ليلياً حسب ظني السيىء.. وبعض الظن إثم! إذن لم أتعرف عليه، خاصة انني من النوع الرديء في بداهة رصد ملامح الناس ..
وحين لمحته عدة مرات وأنا مسترخ في مطعم المطار، بالكاد عرفته، فناديته مشككاً.. وبعد التعارف والسلام، أخبرني انه قدم لأسبوع كان خلالها في فندق في أعالي الجبال لا نعرفه نحن «عيال الديرة» وخبراء السياحة العرب الأشاوس!! وهواية صاحبنا التي مارسها طوال ذاك الأسبوع هي التحليق الشراعي اليدوي بين أعالي القمم وشيء من رياضة المرتفعات وتسلق الجبال.. يعني «بهذلة!».. والعرج في مشيته نتج عن إصابة لحقت به قبيل ساعات أثناء خلل في هبوطه.. يعني «بهذلة وقرادة».. كانت دهشتي كبيرة إذ خلت ان نسل السياح العرب قد انقطع من أناس تمارس هذه اللذائذ السياحية من متع شائقة وهوايات جريئة وتحد للنفس.. فأغلبنا أفراد أو عائلات لا نرى في السياحة إلا استرخاء بليد أو استجمام كسول أو رومانسيات ليلية جامحة!! فخمنت ان صاحبي له خبرة واسعة وتجارب متنوعة في حسن التمتع بالسفر لأن الارتياح كان يتسربل على وجهه، والرضا يقطر من محياه.. قلت هذا رجل خبير أسفار ومتعها، باستغلاله هذه الفترة الوجيزة بطريقة فذَّة.. ولكنه أخبرني وخيّب ظني البائس بأنه قليل السفر، لم يغادر المملكة منذ سنوات طويلة!
هل نعرف كيف نستمتع بالسياحة مثل هذا الرجل أو على طريقة مشابهة؟ السفر الذي قيل لنا في تراثنا ان فيه خمس أو سبع فوائد، كيف نستثمره؟ مثلا هذه الأيام في لندن التي خبرتها ودرست بالقرب منها وأكتب فيها هذه المقالة.. تكاد تنحصر برامج السياح العرب في متع ثلاث: الأولى هي المشي «رايح جاي» في الأسواق الكبرى والحدائق خاصة الهايدبارك والتمتع بالطقس الجميل والأجواء المتنوعة، وما قد يصاحب ذلك من تبضّع على «الفاضي والمليان» وثرثرة و«حش» في خلق الله وفرجة وأكل في المطاعم المتاخمة.. وربما غزل عذري و«التميلح» مع الفتيات الشقر وخيالات أخرى.. والثانية هي ملاهي اللعب وترفيه الأطفال حيث الأهل دوخة بين مطاردة «البزران» عن الضياع وبين تلبية رغباتهم التي لا تنتهي من ألعاب وأكل وشرب وحمام وضيقة صدر و«دلغمة»!.. والأخيرة هي الملاهي الليلية الطروبة البريئة أو غير البريئة للعرب الأقحاح منّا.. و«يا ويلك ياللي تعادينا يا ويلك ويل!».
هناك مُتع رائعة يندر ان تجدنا فيها، منها المشاهدات المتنوعة اللطيفة المثيرة التي يتبعها التعرف على قيم وطبائع وتاريخ مجتمعات البلد المضيف كزيارة المناطق النائية أو المتاحف والمواقع الأثرية والأماكن التاريخية وبيوت المشاهير الذين أثروا تاريخ العالم أو البلد. كذلك حضور دور السينما والمسرح والأوبرا والمراكز الثقافية الترفيهية منها والجادة، ومطالعة صحف وكتب وتوجهات البلد المضيف.. وشتى النشاطات الحضارية كالمنتديات من معارض تشكيلية وأعمال فنية، وكالمسابقات الرياضية غير التقليدية من سباق السيارات أو القوارب أو ما تهوى النفس من مشاهدة ثرية وممتعة لمهرجانات أو كرنفالات أو سيرك.. إلخ.
وهناك التجوال المبرمج مع المجموعات السياحية الذي يمخر البحار أو الأنهر أو يشق البراري والمروج والمرتفعات عابراً مواقع طبيعية خلابة نادرة.. وثمة الهوايات والمغامرات الفيزيقية المتنوعة كل حسب رغبته، مثل السباحة أو صيد السمك أو تجديف القوارب أو تسلق الجبال أو ركوب الخيل أو الكاراتيه..إلخ. ولكن هذه كلها «بقليط» و«دوخة» ما لها لازم .. «حنا رايحين» للتمشي بلا فلسفة وادعاء !
التمشي بمفهومنا هو تغيير الجو والذهاب للسياحة على عواهنها.. وهنا تبدأ لخبطة التمتع بالسفر منذ بداية الحجز له.. نحجز للسفر لفترة معينة إلى بلد ما نحبه أو نظن بأننا نحبه.. راغبين «بالفكة» مما نحن فيه.. دون معرفة الغرض من الرحلة بشكل واضح محدد، ودون تحديد برنامج لمسار الرحلة يلبي ذلك الغرض.. المهم «الفكة» ونرتاح.. كيف نرتاح ليس مهماً.. الأهم ان نبتعد عن الديرة بتعقيداتها، والهروب مما نحن فيه لبعض الوقت.. وكأنها طلعة برّ خفيفة.. وهناك من يريد إعلان السفر للخارج لأن له اعتبارا اجتماعيا وتفوقا طبقيا.. الترتيب والبرمجة هي مجرد إجراءات وتعب وتعقيدات لا تستسيغها أنفسنا المحبة للفوضى الجميلة والتي لا تدري لِمَ هي مسافرة غير الفكاك من ممنوعات متراكمة.. وفي أحسن الأحوال نحجز للفندق أما بقية برامج السفر فهي متروكة للارتجال والصدف والمزاج.
صحيح ان الاسترخاء والراحة تعد من أهم أهداف السائح، ولكن لا يمكن ان تكون هي الوحيدة في كل سفرة.. كما ان من يرغب بالاستجمام والراحة لا ينصح بالذهاب إلى مدن مكتظة صاخبة كبيروت والقاهرة ولندن وباريس بل إلى مناطق سياحية نائية من جزر أو مرتفعات أو شواطئ نقية هادئة. ومن يريد الراحة عليه الترتيب لها كي لا يفاجأ بصدف مزعجة..
السياحة جميلة في أغلب حالاتها حتى إن كان الاسترخاء الكسول هو الغاية.. لكن هل يمكن توسيع أفقنا الاستجمامي؟ ليس من المنتظر ان يتحول السائح إلى سندباد أو ابن بطوطة.. ولكن الأجمل ان نتمكن من خوض احدى أو بعض تجارب التنوع داخل المجتمعات الأخرى وان نتيح لأنفسنا ممارسة مهاراتنا وهواياتنا ومغامراتنا الرياضية والاستكشافية والمعرفية في مواقعها المناسبة... من الضيق الى السعة.. من انضباطية العمل الى حرية التجوال.. من النمطية الى التنوع.. من الرتابة والملل الى الانطلاق والانبساط تكون السياحة مفعمة بالتشويق.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved