Friday 12th september,2003 11306العدد الجمعة 15 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الأمن والإيمان 2-2 الأمن والإيمان 2-2
بقلم د. محمد بن سعد الشويعر

ولما كانت مادة أمن، كما جاءت في المعاجم العربية، لها اشتقاقات كثيرة، منها: أمّن أمانة، كان أميناً، وأمن إيماناً صار ذا أمن، وآمن به وثق به وصدّقه وأمّن فلاناً: جعله يأمن.. وغير ذلك من الاشتقاقات، التي تعطي راحة للنفوس، وطمأنينة للمجتمعات.
فإن الأمن الذي تبحث عنه النفوس، وتحتاج إليه المجتمعات، سواء في حياة البشر الدنيا، عاجل أمرهم، أو في اطمئنانهم على مصيرهم بعد وفاتهم في الآخرة، آجل أمرهم.. وما يدور حول هاتين الحالتين، ما هو إلاّ جزء من مشتقّات «أمن» الذي توسّع فيها اللغويون، ويدور عليها محور ارتياح القلب.. واطمئنان النفس. وسلامة الأمة التي تحرص عليها تعاليم الإسلام.
ففي شؤون الحياة المختلفة، نجد أهمها بعد الأمان العقديّ، الذي قاعدته الأساسية الإيمان بأركانه الستة: ان تؤمن بالله، وبملائكته وبكتبه وبرسله، وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله سبحانه.. وهذا ما جاء تأكيده في كتاب الله سبحانه وتعالى، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء به الأنبياء كلّهم لأممهم، ليكون إيماناً راسخاً وتصديقاً كاملاً، لا شكّ فيه، ولا تفريق فيه: بين الرسل والملائكة والكتب لأنها كلها من الله سبحانه.. والتفريق في هذه الأمور ينقض الإيمان، ويحدث الفرقة.
وقد عرّف العلماء هذا الإيمان: بأنه قول باللسان، وتصديق بالجنان وهو القلب، وعمل بالجوارح.. بمعنى أن القول لا بدّ أن يصدقه العمل، ويصاحبه النيّة المخلصة..
فإذا رسخ هذا الإيمان، في القلب الذي هو محور الأعمال، ويسموّنه ملك الجوارح، لأنّه يتحكّم فيها وفي أعمالها.. فإن بقية الأعمال التي تحتاج إلى الأمان والطمأنينة، حتى تعطي مدلولها: كالأمن الصحيّ، الذي به سلامة الجسم من الأمراض والعاهات، والأمن النفسيّ، الذي به الرّاحة والطمأنينة في الفرد وفي المجتمع، والأمن الغذائي، الذي لا تهدأ النفوس، ولا تستقيم المجتمعات إلا به، والأمن الاقتصادي، لأنّ رأس المال جبان، لا ينتعش إلاّ بالأمن، والأمن الأخلاقي، الذي هو من مستلزمات الراحة والاطمئنان، في الفرد والجماعة، ولا تستقيم هذه الأمور مع الإهاب والإفساد.
ويرتبط بهذه الأنواع، ويحميها الأمن العام الذي ترعاه الدولة، وتهتم بموجبه براحة المواطن، والقضاء على ما يؤرّقه، فتحمي مصالحه، وتحفظ له عرضه وماله. وكلّما قويت شوكة رجال الأمن، فإنما هو من مهابة الدولة، ومتابعتها لكل ما يثبّتْ أركان الأمان في شؤون المواطن المختلفة، حيث جاء في المأثورات: من أصبح آماناً في وطنه، معافى في بدنه، قد كفل قوت يومه له ولأسرته، فكأنما حاز الدنيا بحذافيرها.. والحكمة تقول: نعمتان مغبون فيها كثير من الناس: الصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان.
لأنّ الأمن في الأوطان، والأمن على النفوس والأعراض، والأمن على الأموال والممتلكات، والأمن على خصوصيات الآخرين، كلها تتعلّق بالمجتمع وترابطه، فهي مطالب ملحّة، تسعى إليها البشرية في كل عصر وفي كل مكان، ويحميها الإسلام بتعاليمه.. فيجب أن نسعى جاهدين في تأصيل معناها، وأثرها العام والخاص، في صدور الشباب، مربوطة بالأمن العقديّ، الذي يحميها من الانحراف، أو الاستهانة.. حتى لا تكبر في المجتمع نتيجة التأهل وعدم المبالاة، وافلات الشباب دون رقابة، فالإسلام بحدوده وزواجره، يجعل سداً صعب التخطي، خوفاً من العقابات التي وضعها الله حاجزاً يروع بعض النفوس الضعيفة:-
- فالحرابة والتّعدي على ممتلكات الآخرين، فرض الله لها عقاباً قوياً، يردع الفاعل ومن في نفسه تهاون، أو في قلبه مرض، بينت آية الحرابة في سورة المائدة، عقاب من تسول له نفسه نزع فتيل الأمان من القلوب، أو الاستهانة بحرمات الآخرين: بالقتل والصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض.
- والتّعدي بالقتل، أو السرقات، لما في ذلك من جرأة على حرمة النفوس، التي أعطاها الإسلام الأمان، والتّطاول على ممتلكات الآخرين: نهباً وسرقة، فيه تسلّط بغير حقّ على حاجز أمني، وهتك لحرمات كانت آمنة وفي حرزها، فكان جزاء هذا التعدي والظلم، أن استحق الفاعل ما يخيفه نظير التّعدي على الأمن، والتجرؤ على الحرمات، بقتل القاتل، وقطع يد السارق جزاء وفاقاً لعمله، وإخافته الآمنين. ذلك أن الإسلام حرّم ترويع وإخافة المسلم، فما بالك بالإرهاب والتعدي؟
- ثم تأتي جزاءات وزواجر، تردع الظالم، وتقمع المعتدي بالسبّ والشتم، والقذف وغير هذا من أمور، اهتم بها الإسلام تبيّن مكانة الفرد، وأهمية المحافظة على الجماعة في البيئة الإسلامية مما يدعو إلى ترسيخ المكانة التي يحميها الإسلام لأبنائه، وترعاها تعاليمه التي تدعو للألفة والمحبة فلا يجوز ترويع المسلم، ولو عن طريق المزاح ولا يجوز رفع الحديدة في وجهه، ولا يجوز نزع المكانة الأمنية في المجتمع الإسلامي بل يحرم على المسلم أن يرفع السلاح في وجه أخيه، ولا ينتهك حرمته، في بيته أو مع أهله.
وغير هذا من أمور تحفظ كرامة الفرد، وتحافظ على أمن المجتمع، مما يجب معه ترسيخ هذه المكانة في قلوب الشباب، حتى لا تتنازعهم الأهواء، ولا تُسمم أفكارهم، ولا يعتدون بالتطاول والتنقيص من مكانة الآخرين، فلكل مكانته، وكلهم لآدم، فيجب إدراكهم هذه المكانة، وتمكينها من قلوبهم.
القاضي الورع
جاء في كتاب العقد الفريد للملك السعيد، حكاية لأحد قضاة المهدي العباسي، هي نموذج للورع والخوف من دركات القضاء، فقد نقل ان: عاقبة بن يزيد القاضي، كان يلي القضاء في بغداد للمهدي.. فجاء في بعض الأيام للمهدي، وقت الظهيرة، ودخل عليه وهو خالٍ من المشاغل، وقد خفّ الناس من مجلسه.. بعد أن استأذن عليه، فلما دخل استأذنه فيمن يسلّم إليه القمطر - وهو ما يصان فيه الكتب - وفيه قضايا مجلس القضاء، والحكم بين الخصماء.. واستعفاه من القضاء، وطلب من المهدي ان يعفيه من ولايته. فظنّ المهدي أن بعض الأولياء قد عارضه، في حكمه فقال له في ذلك، إنه إن كان قد عارضك أحد فسوف ننكر عليه. فقال القاضي: لم يكن شيء من ذلك.
قال: فما سبب استعفائك من القضاء؟ قال: يا أمير المؤمنين، تقدّم لي خصمان منذ شهر في قضية مشكلة. وكل يدّعي بيّنة وشهوداً، ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتلبّث. فرددت الخصوم رجاء أن يصطلحا، وان يظهر الفصل بينهما.
فسمع أحدهما أني أحب الرّطب، فعمد - في وقتنا هذا وهو أول وقت الرّطب -، فجمع رُطباً لا يتهيأ الآن جمع مثله لأمير المؤمنين، وما رأيت أحسن منه، ورشا بوابي بدراهم، على أن يُدخل الطّبق عليّ. فلما أدخله عليّ أنكرت ذلك، وطردت بوابي، وأمرت بردّ الطّبق، فرُدّ عليه.
فلما كان اليوم تقدّم الخصمان إليّ، فما تساويا في عيني ولا قلبي، فهذا يا أمير المؤمنين، ما حصل عندي، مع أني لم أقبل منه الهدية، فكيف يكون حالي لو قبلتها، ولا آمن نفسي أن تقع عليّ حيلة في ديني، وقد فسد الناس، فأقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله، وأعفني من القضاء عفا الله عنك «ص 170».

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved